من الفقرات التي حذفها حسين، الذي استند في أطروحته كما هو معروف إلى المنهج الديكارتي، تلك التي شكّك فيها بوجود الشعر الجاهلي، معتبراً أنه "منحول بعد ظهور الإسلام... فالشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن".
لذلك، يعتبر حسين "لا ينبغي أن يُستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث. وإنما ينبغي أن يُستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله. فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم".
بهذه الروح الميّالة إلى المواجهة مع المكرّس، اتفقنا معها أو اختلفنا، يكتب حسين كتابه الثاني "مستقبل الثقافة في مصر" 1936، ليعود إلى الجدل مرة أخرى. فقد وضع الكتاب بعد أن وقَّعت مصر معاهدة "الشرف والاستقلال"، ورأى حسين ضرورة أن يضع تصوّراً من هذه اللحظة للنهضة بالثقافة المصرية.
اعتبر أن هذه النهضة مرتبطة بالنظر إلى مصر بوصفها أقرب إلى أن تكون من دول حوض البحر المتوسط، منها إلى الثقافة العربية، إذ يقول "فليست الثقافة وطنية خالصة، ولا إنسانية خالصة، ولكنها وطنية إنسانية معاً، وهي في أغلب الأحيان فردية".
وجهة نظره جلبت له المتاعب مرّة أخرى، وما يقوله حسين بالضبط هو أن "العالم ينقسم إلى حضارتين لا ثالث لهما. الأولى تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة وفلسفة اليونان والقانون الروماني. والثانية تأتي من الهند... إذن فالعقل المصري القديم ليس عقلاً شرقياً إذا فُهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار".
حسين في الكتاب نفسه، سيتحدّث عن اللغة العربية وقيمة تراثها فيقول "لا أستطيع أن أتصوّر التفريط -ولو كان يسيراً- في هذا التراث العظيم الذي حفظته لنا اللغة العربية الفصحى، ولأني لم أومن قط ولن أستطيع أن أومن بأن للغة العامية من الخصائص والمميزات ما يجعلها خليقة بأن تسمى لغة، وإنما رأيتها وسأراها دائما لهجة من اللهجات قد أدركها الفساد في كثير من أوضاعها وأشكالها، وهي خليقة أن تفنى في اللغة العربية إذا نحن منحناها ما يجب لها من العناية فارتفعنا بالشعب من طريق التعليم والتثقيف، وهبطنا بها هي من طريق التيسير والإصلاح الي حيث يلتقيان من غير مشقة ولا جهد ولا فساد".
يضيف "مصر تنتمي إلى الحضارة الأولى. فلماذا إذن ينظر المصريون إلى أنفسهم على أنهم من أهل الشرق؟ يأتي هذا بسبب اللغة والدين. والمشاركة في هموم الاحتلال والتخلف. وما دمنا متخلفين مثل دول الشرق، ونتحدث بلغتهم، فنحن مع حضارة الشرق. ولكن تاريخ مصر يقول عكس ذلك"، ومن هذه النقطة ينطلق بعد ذلك إلى استعراض تاريخ مصر القديم، وتأثّرها بالثقافة اليونانية حتى وهي في ظلّ الحكم الإسلامي.
رغم كل ما أثاره حسين من جدل، لعبت مؤلّفاته دوراً كبيراً في إغناء الثقافة الأكاديمية، ولعب دوراً أساسياً في تكريس التعليم المجاني في مصر منطلقاً من شعاره "يجب أن يكون التعليم كالماء والهواء".
استطاع أيضاً حين تسلّم تحرير مجلة "الكاتب" التواصل مع أسماء مهمة في العالمين العربي والأوروبي، فكتبوا فيها ومنهم جان بول سارتر، وأندريه جيد، وسلامة موسى، وسيد قطب، وسهير القلماوي.
ليس صدفة أن يُطلق عليه "عميد الأدب العربي"، الأمر مرهون بالمرحلة التاريخية التي ظهرت فيها أفكاره، وما قدّمه من منهج، كان منفتحاً جريئاً في أطروحاته بغضّ النظر عن التقييمات المتباينة حولها، ويمكن القول إن كتابات من مثل "على هامش السيرة" و"في الشعر الجاهلي" لو ظهرت في وقت آخر ربما لم تقم حولها تلك المعارك.
غير أن منهج الشك في التراث في العشرينيات من القرن الفائت دفع إلى تلك الضجة الكبرى، وهي بحد ذاتها ضجة ضرورية شكّلت خطوة لفتح باب التأويل والتفكير بحرية والنقد الموضوعي العلمي بعيداً عن السائد المسلم به وقادت العلم والفكر خطوة نحو الجدال مع الآخر والقبول بساحة الفكر كمكان للمعارك الفكرية، وإن كنا نعيش اليوم انتكاسة في هذا السياق.