تصادف اليوم ذكرى ميلاد الفنانة العراقية الراحلة سليمة مراد، المرأة الوحيدة التي كانت تلقب بباشا في بغداد العشرينيات، ويقال إن من منحها إياه هو نوري السعيد الذي كان كلِفاً بصوتها وحاضراً في "ملهى الجواهري"، حيث تغني وتسهر، والذي كان مقتصراً على أبناء الطبقة البرجوازية، ثم أصبحت تعرف باسم مراد بعد أن نزع عنها اللقب في الخمسينيات.
رغم ذلك يُروى عن مراد أنها ذكرت أن باشا لم يكن لقباً رسمياً، بل إنه ما كان يهتف به الجمهور حين يسمعونها، وأصبح دارجاً أن يقف أحدهم في الصالة وهي تغني ويصرخ طرباً "أنتِ باشا"، وهكذا صار اسمها سليمة باشا.
مراد اليهودية التي رفضت مغادرة العراق إلى "إسرائيل" مثلما فعل كثيرون، وُلدت في محلة طاطران في بغداد، وكانت تلقب بسيدة الغناء العراقي الذي تلقته وتعلمته منذ نعومة أظافرها في ما كان يعرف بـ"الجالغي"، وهي كلمة تركية تعني "الجوق" الذي يرافق قارئ المقام، ويتألف من عازفي السنطور والرقّ والطبلة والجوزة والقانون، وقد كان يهود العراق أصحاب الفضل فيه وهم أشهر عازفيه في القرن التاسع عشر وحتى منتصف العشرين.
بدأت مراد ترسّخ نفسها كنجمة بغداد الأولى في العشرينيات، حيث التقت بالشاعر عبد الكريم العلاف والملحن صالح الكويتي وقدمت معهما أجمل الأغاني التي تعد اليوم من أرقى كلاسيكيات الطرب العراقي، والتي ما زال المطربون حتى يومنا يعيدون توزيعها وتقديمها.
وربما تكون أغنية "قلبك صخر جلمود" التي قدمتها في مطلع الثلاثينيات، أحد الأغنيات التي نقلتها إلى شهرة عربية، فحين سمعها زكي مبارك أطلق عليها "ورقاء العراق"، وحين سمعتها أم كلثوم منها عام 1935 - حين كانت تزور بغداد لأول مرة - وما زالت مبتدئة بالنسبة إلى تاريخ سليمة باشا، طلبت أن تغنيها فعلمتها الأخيرة المقام العراقي الصعب، وغنته أم كلثوم أمامها.
بعد سنوات ستسجل كوكب الشرق نسخة نادرة من الأغنية على أسطوانة، دون أن تشير إلى سليمة من قريب أو بعيد، وهو تسجيل ليس متوفراً للأسف على أي موقع إلكتروني حتى اليوم، وعسى أن يجد من يفرج عنه ويتيحه للاستماع.
إن كنت "سميعاً" فلا يمكن أن تشغل أغنية لمراد وتتركها تمر هكذا دون أن تعيد مقطعاً فيها أو تعيدها كلها، وهذا ينطبق على وجه الخصوص على "يعاهدني لا خانني" أو ذلك التسجيل النادر "إنت مالك" الذي ينتمي إلى غناء "الأبوذية" الشعبي العراقي القريب من مواويل العتابا في بلاد الشام ولكنه أكثر تعقيداً، أو "أذكر زمان الي راح" الذي تؤدي فيه لون "البستا" الريفي.
ولا بد هنا من ذكر فضل "المكتبة البريطانية" التي قامت مؤخراً بإطلاق موقع "ساوندس" وفيه أرشيف نادر من أغاني مراد بتسجيلات واضحة جداً جرى الاشتغال عليها رقمياً، أتاحت سماع صوت مراد الفتّان صافياً بلا خشخشة التسجيلات القديمة وبلا خلفيات الجمهور وضجيج المسرح إن كان التسجيل من حفلة.
تزوجت مراد من الفنان ناظم الغزالي، وكان الفرق في العمر بينهما يقارب العشرين سنة، كانت هي نجمة وهو ما زال يشق طريقه. كان العشق بينهما أفلاطونياً، فرغم زواجهما ثمة من يروي عن مراد قولها "كان ناظم بالنسبة إلي وسادة مريحة أسند اليها رأسي بثقة ولم يكن الجنس له وجود بيننا، عشنا معاً سبع سنين برابطة الفن والإحساس المرهف".
كان معروفاً عن سليمة وناظم سهرهما طيلة الليل تعلّمه المقامات وكيف يلعب فيها ويخرج من واحد ويدخل إلى آخر، افتتحا معاً ملهى خاص بهما، وسجّلا أيضاً عدة أغنيات، ومرة سافر الاثنان إلى بيروت في رحلة عمل، وعاد كل منهما وحده، حيث سبق ناظم سليمة، وعند وصول مراد في اليوم التالي وجدت الناس متزاحمة عند بيتها... لقد مات ناظم.
انهارت مراد تماماً واتهمها بعضهم بأنها قتلته بغيرتها الشديدة عليه، بينما لا أحد إلى اليوم يعرف لماذا توقف قلبه، وماذا حدث بين الزوجين في بيروت قبل أن يعود ناظم وحده في ليلة 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1963، وتعود سليمة في ظهر اليوم التالي لتجده فارق الحياة، وتسقط بعد فراقه في الاكتئاب وتعتزل الناس حتى رحيلها في إحدى مشافي بغداد، عام 1970.
رغم ذلك ثمة جهد توثيقي بُذل وجمعت فيه مادة مناسبة لمسلسل تلفزيوني عراقي بثّ عام 2010، بعنوان "سليمة باشا"، يكشف شيئاً من التوتر الذي شاب الأيام الأخيرة بين الاثنين، في علاقة يتخللها كل شيء: الحب والأمومة وغيرة النجوم وغيرة المحبين وفضل الفنانة الكبيرة على الفنان الذي كان مجهولاً. رحل ناظم وسليمة بفارق سبعة أعوام بينهما، لكن القول بأنهما رحلا معاً في اللحظة نفسها قد لا يكون بعيداً عن الصحة أيضاً.