يمثل سان جون بيرس (1887-1975) حالة متفرّدة، سواء في الثقافة الفرنسية، فضائه الطبيعي، أو في ثقافتنا العربية. فأما الأولى فقد صنع فيها فرادته بداية بنصٍ شعري قطع مع تاريخ كامل من التقاليد الأدبية الفرنسية، ثم بسبب تقلبات حياته حيث عاش متنقّلاً حاملاً لأسماء عديدة، وأما في الثانية فلا ترجع فرادته إلى نفس الأسباب؛ لقد صنعتها حيثيات تقبّله.
بدأ ذلك مع "غرام" أدونيس بشعره، فبدأ منذ الخمسينيات بترجمة قصائده وصولاً إلى نقل الأعمال الكاملة إلى العربية وإصدارها في نهاية السبعينيات، لكن ذلك كان سبباً في سجالات عدة أبرزها مع المترجم التونسي على اللواتي الذي نقل هو الآخر شعر بيرس ووضع مقدّمة أشار فيها إلى أخطاء ترجمة أدونيس. أصبحت هذه "المعركة" أوّل ما يعترض القارئ العربي وهو يتلقى نصوص صاحب "الرياح"، إذ يتشتّت القارئ بين خيارات هذا وحجج ذاك.
هل من الممكن اليوم التحرّر من آثار هذه المعركة، وهي معركة لا يخرج منها أحد منتصراً حتى بيرس نفسه، بل هو ضحيّتها الأولى. وهل يمكن لقارئ العربية ألا يشعر بأن الترجمة المتداولة صُبّت في أسلوب أدونيس، فأين سان جون بيرس؟ وبعد ذلك، هل ننتظر ترجمة أخرى؟ وهل سيكون منطقياً أن يحضر بيرس مرتين وأكثر وشعراء آخرون لم يحضروا بعد في لغتنا؟
ما ننساه مع هذا الشاعر الفرنسي، وربما مع مئات الشعراء الأجانب، هو أنهم ليسوا مجموعة نصوص يمكن تجميعها ومن ثمّ الاطمئنان إلى أن اسماً كبيراً في خارطة الشعر في العالم قد وصل إلى العربية. هؤلاء هم قبل كل شيء سياقات ومناخات ومشاريع شعرية وفكرية، وكل هذا قلما يرافق النصوص حين تصل إلى العربية.
اليوم ولكي يكتمل حضور صاحب "منفى"، ينبغي أن تصحبه مدوّنة تراكمت على مدى عقود. تعدّ المكتبة الفرنسية، على الأقل خمسة أعمال بيوغرافية موسّعة عنه، وهناك دراسات يصعب حصرها، ومنها سلسلة خصّصتها دار "غاليمار" لـ بيرس، تتضمّن دراسات فلسفية ومعجمية وأنثروبولوجية وغير ذلك. وهذه تمثّل مدوّنة مستحدثة حول الشاعر تصنع له نصاً موازياً لنصه الأصلي، وتمثّل عتبة من عتبات دخول عالمه.
ما "يُفسد" حضور بيرس بيننا أيضاً أن شعره تتخلله قضايا متشعّبة، حول المكان والعلاقات الدولية والتاريخ والكون، فهل ثمة من طوّع هذه العوالم لأسماع وعيون قرّاء عرب تعوّدوا في الشعر على ثيمات أخرى؟
هكذا نسجّل غيابات كثيرة لشاعر نظنّ أنه على قائمة المبدعين الذين دخلوا ثقافتنا. وغياباته تكشف أكثر من خلل في منظومة التلقي. ربما نهوّن على أنفسنا حين نعلم أنه شاعر تثار من حوله إشكاليات تلقٍ حتى في فرنسا نفسها. بعضهم يقول إن العالم يحبّه أكثر من بلده الأصلي.