رغم أن الحضارة العربية الإسلامية تُمثّل إحدى أكثر الفضاءات الثقافية اهتماماً بالمسائل العمرانية، إلا أن معظم التجارب المعمارية العربية المعاصرة اصطدمت مع جملة تناقضات، اجتماعية وجمالية ونظرية.
فإذا أضفنا هجمة النزعات المعمارية الغربية، ثم صعود النمط المنفعي في المعمار، وجدنا أن كل هذه العوامل عمّقت شروخاً بين المعمار والإنسان، حيث إن البناءات لم تعد في الغالب تنطلق من حاجيات ساكنيها وإنما تفرض نفسها عليهم وعلى أنماط حياتهم وهويّاتهم.
قد تكون أفكار المعماري المصري حسن فتحي (1900 - 1989)، الذي يقابل اليوم ذكرى ميلاده، الأكثر إشكالية في هذا السياق، بالنظر إلى ريادته على المستوى النظري ومحاولته الجادة في تغيير هذا الواقع المعماري الذي وجد عليه بلاده، وصولاً إلى إخفاق مشاريعه، على المستوى التنفيذي، والتي قدّمها قرب قريتَي القرنة وباريس خلال سعيه لإيجاد تنظير وممارسة معماريتيْن يتعلّقان بوظيفة البناء وشكله ومساءلتهما في سياق الحداثة والتحديث الذي لا ينبت عن جذوره الثقافية والفكرية.
المعماري المصري الذي كان يرغب في دراسة الهندسة الزراعية لكنه التحق بكلية العمارة بناءً على إلحاح عائلته، تبنّى رؤيةً خاصة في تطوير الريف بوصفه مساحة يعتمد أهلها على الزراعة كمهنة ونمط عيش، وبمعنى أوضح يُمكن وضع أنموذج يناسب نمط إنتاجهم وعوامل البيئة والمناخ وجمالية المكان، ليتمّ تعميمه على فضاءات أخرى.
بعد فشل مشروع "القرنة"، قرب مدينة الأقصر في خمسينيات القرن الماضي، غاب فتحي قرابة عقدين نفّذ خلالهما أعمالاً خارج مصر، وأقام في عزلة مثّلت مرحلة جديدة بالنسبة إليه حين توسّعت قراءاته في الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثرولوجيا والعمران، ضمن محاولة لصياغة مشروع ثانٍ في قرية باريس في محافظة الوادي الجديد. ورغم تطّور الأفكار والمخطّطات والحسابات إلا أن نصيبه كان التوقّف أيضاً.
لا يمكن الوصول إلى أسباب قاطعة لتعثّر المشروعَين، فبعض منتقديه ذهبوا إلى نقض الرؤية الشمولية الجذرية لدى صاحب كتاب "قصة مشربية"، ففي مشروعه الأول كان يرسم قرية للفلاحين ولم يكن يعلم أن أهلها يعيشون على بيع الآثار وأنهم رفضوا أن يقيموا في بيوتهم الجديدة لأن القبب التي تعلوها لم تتم استعارتها من عمارة منازلهم القديمة إنما من شكل مقابرهم، وتلك التقاطة ربما فاتت فتحي الذي نظر إلى القبّة من منظور جمالي وبيئي.
ربما لن نجد تعبيراً أدق من الذي استخدمه هو نفسه في كتابه "عمارة الفقراء" (1969) حين أوضح أن ثلاثية المالك والمقاول والمعماري التي تحكم البناء الحديث قد تحوّلت إلى ثلاثية المعماري والفلاح والبيرقراطي في إشارة ساخرة منه إلى تخلّف الإدارة الحكومية التي تولّت التمويل والإشراف وإلى مقاومة الفلاح لعملية التحديث لأن الزراعة لم تعد منطلق حياته وعمله.
أراد فتحي أن يفصل بين التحديث والتغريب في عمارة مخصّصة للفقراء، واختار قرية بعيدة عن الانحطاط والسقوط الأخلاقي والحضاري لتنفيذ فكرته قبل "أن تؤدي النقود والصناعة والجشع والتكبّر إلى فصم المعمار عن جذوره الحقيقية في الطبيعة"، بحسب قوله.
العثرات والهنّات التي تُنسب إلى مشروعه تتصل بصورة كبيرة بالشكل، فمن الناحية الفلسفية يمكن الادعاء أنه فرض على أهل القرنة طرازاً معمارياً كانت النتيجة أنهم رفضوه؛ أي أنه كان - بمعنى ما -منفصلاً عنهم، وهو ما قد يخالف المبدأ الذي نظّر له، فيكون كمن يخترع لهم عمارة تقليدية لم تعد تنتمي إلى تقاليدهم.
من جهة أخرى، ذهب إلى تعميم العمارة الطينية باعتبارها طرازاً لا يناسب الريف فحسب، إنما يلائم جميع مناطق مصر وهو منطق شكّك فيه كثيرون، بل إن المباني التي نفّذها تلامذته في أماكن حضرية أو ساحلية بدت في مكانها نافرة وناشزة وغير منسجمة معه.
كما أن العمارة الطينية التي دعا إلى استخدامها جاءت ترجمةً لفكرة أخرى لديه تتمثّل في أن يبني سكّان كل منطقة مساكنهم بما يناسب بيئتهم، وهنا تصبح حرفة البنّاء أهم من رؤية المعماري، وتلك معضلة لم يجد لها حلاً في مشروع باريس أيضاً.
لكن لا ننسى أيضاً أن رؤى فتحي لم تلق الدعم الحكومي الذي تحتاجه، رغم الاعتراف به مبكّراً كمدرسة في المعمار، وهذا عامل يجدر الانتباه إليه لتفسير عدم إتمام مشاريعه. وعلى مستوى آخر، حوربت أفكاره من قبل المقاولين، وكيف لأفكار نظرية أن تتحقّق بشكل موسّع دون أن تظهر إرادة في تنفيذها.
مع حسن فتحي قد نكون إزاء محنة المعمار العربي في عصرنا، فهذا المجال يحتاج إلى تكامل عدّة أطراف وتناغمها من أجل بلورة الفكر النظري على أرض الواقع، وقبل ذلك ينبغي أن يتوفّر مناخ من الوعي المعماري ومنهجيات التخطيط الحضري، إضافة إلى الشروط الاقتصادية، وكل هذه العوامل كان من الواضح أنها تقف في الاتجاه المعاكس لما كان يفكّر فيه المعماري المصري الرائد وما يحلم به.