ذكرى ميلاد: بدر شاكر السيّاب.. شعرية الفاجعة

25 ديسمبر 2019
(بدر شاكر السيّاب)
+ الخط -

لم تحظ موجات التجديد في الشعر العربي بدراسات كافية تربطها بتحوّلات المجتمعات العربية في المئة والخمسين سنة الأخيرة، حيث ركّزت السجالات في منتصف القرن الثاني على "الريادة" في كتابة قصيدة التفعيلة، التي سُميّت حينها - على نحو خاطئ - بالشعر الحر، وكان بدر شاكر السيّاب الذي تصادف ذكرى مولده اليوم، قطباً أساسياً في ذلك الجدل.

بنى الشاعر العراقي (1926 - 1964) أسبقيته بناءً على شكل الكتابة الذي انفلت حينها من عمود الشعر وحافظ على وزنه العروضي، وإن تبيّن لاحقاً أن شعراء عرباً عديدين قد سبقوه، بل إن نازك الملائكة التي كانت أشد منافسيه على تلك "الأسبقية"، عادت في السبعينيات لتضع تجريبها في خانة تطوير القصيدة العمودية وليس الانقلاب عليها، وفي ذلك قدر كبير من الموضوعية.

لكن تلك النقطة لم تعد ذات أهمية قياساً بما قدّمه صاحب "أزهار ذابلة" (1947) على أكثر مستوى؛ أولها تحريكه أو هزّه لمشهد ثقافي كامل في العراق، وفي العالم العربي، ما يثبته تلك الرغبة العارمة في التمرّد عليه من الجيل التالي من الشعراء العراقيين.

وفي مقدّمة هؤلاء كان فاضل العزاوي الذي كتب بعد رحيل السياب بعام واحد فقط من سجنه رسالة قال فيها: "إنَّ الشكل البدائي للقصيدة أو اللوحة لم يعد قادراً على استيعاب انفعالاتنا وتجربتنا الحضارية الجديدة في عالم متأزم، ولهذا بدأت أضجر من قصائد السياب ونازك، دون أن أنكر دورهما التاريخي"، وهو موقف توافق فيه مع سامي مهدي وفوزي كريم، حتى أن الأخير أصر أن حداثة جيل السيّاب بقيت "أسيرة الرؤيا الشعرية التقليدية".

لم يكتف صاحب "حفار القبور" (1952) بطرح كلّ هذه التساؤلات لدى من أتوا بعده، إذ إنه يكاد يكون الشاعر الأكثر درساً في المدونة العربية المعاصرة، ولم تكن قراءاته مجرّد احتفاء بتجربته في لحظة جمود شعري إنما خضعت لإعادة نظر، مثلما فعل جبرا إبراهيم جبرا الذي كان أوّل المتحمسين له حين وصفه بـ"عين وذاكرة مرهفة مليئة بالصور" في زمن كانت الزخرفة البلاغية تهمين على القصيدة، ثم قدّم قراءة استعادية له بعد ثلاثين عاماً على رحيله يقبض خلالها على جوهر التجربة فيقول "نظرة الغضب والفجيعة التي تتحول دائماً الى مغزىً كوني".

هنا، تكمن شعرية السيّاب وشاعريته التي يمتزج فيهما التفجّع على شأنه الشخصي من فقر ومرض وغربة بذلك الغضب من العالم كلّه، فيؤلّفان روحاً واحدة لم تحتمل العيش سوى ثمانية وثلاثين عاماً، كتب خلالها مئات القصائد لكن متنها يقود دائماً إلى تلك الكارثة أو الموت التراجيدي الذي يسير بشكل درامي طوال أيام حياته.

لقد كان الشاعرَ الذي يشغل الصحافة والنقد في نصوصه وآرائه ويُحتفى بها أينما حل وارتحل، كان يغادر الجموع من حوله إلى وحدة قاسية حيث لا صديق ولا أخ ولا حبيبة، كما سجّل العديد من مجايليه شهاداتهم عنه، وأنه كان دائماً كمن يبحث عن خلاص!

مخاطباً "بويب" حيث وُلد بالقرب من مجراه، يقول في قصيدة "النهر والموت": أود لو غرقت في دمي إلى القرار/ لأحمل العبء مع البشر/ وأبعث الحياة، إن موتي انتصار.

المساهمون