كانت الشمس ثقيلةً إذ تبزغ من شبّاك الزنزانة العالي صباحاً، وبلا معنى، بين الأنين والنحيب والصلوات والألم والرجاء والتوسل. عصافير تضرب بمناقيرها لوح التوتياء الذي يغطي سقف المهجع، كان تمييز صوتها والإصغاء بانتباه إلى خربشات أظافرها في خلفية الأصوات والضجيج، ضرباً من سورياليةٍ غير ضرورية ونوعاً من سخريةٍ أليمة.
يقولون إن المهجع الخارجي كان كافتيريا للضبّاط والمحققين في الفرع، ولكن لكثرة المعتقلين حوّلوه الى سجن على عجل. لا غرابة، لقد حوّلوا كل شيء الى سجن في تلك البلاد، المدرسة والبيت والشارع والسينما والمقهى والحديقة... وماذا أيضاً! الناس! حتى الناس! لقد حوّلوا كل أحدٍ إلى سجن لنفسه.
أحدهم يسرق طماطم عفنة وخبزاً من حصص الطعام ويخبئها في كيس اعتاد أن يجمع فيه ما يستطيع تحصيله وإخفاءه عن اعين السجانين والمعتقلين. اي معنى للجشع هاهنا! وسط هذا الخوف كله!
أحدهم يصفع سجيناً مثله لأن السجّان منحه سلطة فعل هذا إن أراد. أي معنى للذات الآن! أحدهم يشي بأصدقاء له أيضاً، أي معنى للخيانة في هذا الوقت! ولكن، حين كان يعود أحدٌ ما من التعذيب، كان بعض الآخرين يرشّون الماء على كتفيه وظهره، أو يكبّسون رجليه بأيديهم لتلتئم الأوردة الشعرية التي مزقتها ضربات العصي والكابلات، أو يلوحون بقطعة ثياب لتبريد مكان الألم.
هكذا ربما كانت غاية المعتَقَل تفقد معناها. ثلاثمئة معتقل في زنزانة صغيرة، حيث لا فسحةَ لشيء، ولكن مهلاً، إن دققت النظر فهناك ذبابةٌ تحلّق طوال الوقت بحريّةٍ ملء الفراغ الذي يخيّم فوق الجميع.
بعد أسبوع يهبط بي المصعد من الطابق الثامن عشر في مشفى بلڤيو، أسير مبتعداً عن المبنى الذي شهدَ حروباً ومعاركَ وضحايا ومنتصرين ومهزومين طوال المئتي عام التي هي عمره. أدخن سيجارةً في الحيّ الأول الذي نمت منه المدينة، قالت الطبيبة الصينية إن بي كآبةً وقلقاً وأعراضَ ذهان، وأقول سراً لنفسي، هذا التشخيص السخيف هو بالضبط ما سيشعرني بالكآبة والغثيان.
* شاعر سوري مقيم في نيويورك