ذاكرة ناخب... بين فعل الاقتراع ومآله

15 مارس 2020
+ الخط -
اعتدت قراءة تلك البرامج، التدقيق في الوعود الانتخابية التي احتوتها ومقارنتها بغيرها من البرامج. إنها مجرد تعهدات تتأقلم مع متطلبات وطموحات المجتمع سبق وأن أقرتها أحزاب وأكدت هذه الوعود اليوم وستدعمها مستقبلاً.

ويتواصل كذلك الحديث عن موضوع الانتخابات لحظة عودتي إلى المنزل وطرح التساؤلات حول المترشحين ومن سأنتخب. حديث ربما كان في مجمله قصيراً لكنه يبقى يتمحور حول صناديق الاقتراع. وفي محاولة لتناسى هذا الموضوع المسيطر على واقعنا، والذي يحكم قبضته على فكري وأنفاسي، كان ركوني إلى غرفتي والبحث عن ملاذ للهروب والحصول على نوع من الراحة الذهنية لا يعدُ أن يكون إلا مجرد حلٍ بائسٍ وغير ناجع. إذ إنّ غزو معطى الانتخابات لصفحات "فيسبوك" وللمواقع الإخبارية والتلفزيونية شكّل أمراً رهيباً. فلكأن المواضيع الأخرى التي تشغل المجتمع تتلاشى في هذه الآونة أمام الحضور المكثف والمجحف لكل ما هو انتخابي.

تعاليق، آراء، مواقف، انتقادات، برامج، مقتطفات، صور وحوارات تلفزيونية لمرشحين، ناخبين، محللين سياسيين وحقوقيين ونشطاء في المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات، كل هذه التمظهرات شكلت تجسيداً لصيرورة أحداث الانتخابات. إذ إنه أمام هذه الترسانة من الوقائع والمعلومات، أجد نفسي عاجزاً عن الهروب منها وتفادي تصفحها. أجد فكري غير قادر على تجاوز تلك الأحداث ليعلق بذلك بعضها في ذهني وذاكرتي.

ويواصل خبر "الانتخابات الجليلة" سطوته وسيادته على مجريات اليوم. إذ إن تلك الحوارات التي أتخذ فيها أحياناً دور المشارك وأحياناً أخرى دور المستمع، بات جوهرها متعلقاً بالقائمات الانتخابية واختيار الحزب المناسب والمرشح الأجدر في الانتخابات الرئاسية أو ما عبرت عنه الصحافة "بالعصفور النادر".

وبانتهاء هذه الحوارات المتعلقة بالمترشحين واستشراف نتائج الانتخابات، تبدأ جرعات اليأس والإحباط تستحوذ على مجريات الحوار حول مستقبل البلاد وما ستؤول له بعد يوم الاقتراع. إذ إن الكل مساند لفكرة التشاؤم غير متأكد أن الأوضاع ستحظى بنوع من التحسن.

لكن في إطار مجال تفكير موحد ووحيد "انتخابات شعبنا الفريد"، أتعايش مع أحداث تنهل من مفردات المعتاد الشيء الكثير أو لعلها أضحت تدريجياً هي المعتاد ذاته. أحداث تتمحور حول إنجازات هذا المرشح وذاك الحزب، بين تلك الأقوال المأثورة للمترشحين و"خطاباتهم الشعبوية"، بين حشود تدعم هذا وأخرى تدافع عن ذاك. بعد أن تخلص من قراءة نصوصه السابقة التي كان قد وثقها بحبره ضمن سلسلة من الكتابات تتمحور حول "حدث الانتخابات"، شغف إعادة إحياء فعل القلم يستحوذ عليه كالمعتاد... يبحث عن بداية من شأنها أن تؤسس لمزيج متجانس من الأفكار بغية تحقيق الترابط والتكامل بين نص سابق وآخر لاحق، بين أحداث الماضي ووقائع الحاضر، بين ما عايشه زمن الانتخابات وبين ما يعيشه الآن فترة ما آلت إليه نتائج الاقتراع والوضع الحالي للمجلس. المجلس، العبارة التي استفزت تفكيره، ارتآها مناسبة لبداية جديدة، فالحديث عن مجلس ممثلي الشعب سيكون بمثابة التتويج لسلسلة نصوصه السابقة.

مجلس ممثلي الشعب، أرسى مفهوماً حديثاً للعمل البرلماني أو التشريعي، ينهل من مفردات الفريد والغريب الشيء الكثير. إذ أضحى هذا العمل يتلخص في جملة من المشاهد التي ألفها أفراد المجتمع. ليتجلى لنا مشهد الحملات الانتخابية كمشهد رئيسي يطغى على صيرورة الأحداث داخل المجلس، حيث أنّ الأحزاب التي حظيت بتزكية من الشعب لا تزال تحتكم وتركن إلى خطابات حزبية تعود إلى الفترة الانتخابية أين يتمظهر الاستغلال المجحف لمعاني معجم "الحزب الأفضل". فالكل يتباهى بالمقاعد التي ظفر بها في الانتخابات، لتكون بداية المداخلة التي يتم إلقاؤها أمام بقية الكتل البرلمانية.

من التباهي وتوظيف مفردات "الحزب الأجدر"، إلى مشهد آخر عنوانه "فن إلقاء وتبادل التهم والتهديدات" أين تقبع التجاوزات؟ إذ إن فحوى الخطابات اقتراف لخروقات جسيمة من مداخلات تكريس التكفير وأخرى تتبنى أسلوب إلقاء التهم والتشويه، وخطابات ماهيتها التهكم والاستهزاء والنفي والإقصاء.

ألا تعد هذه المواقف اعتداءً وانتهاكاً جلياً لجوهر حرية الرأي؟ ألم يساهم بذلك التحصن بآلية الحصانة البرلمانية في انبثاق هذه الخطابات الارتجالية، الانفعالية، الذاتية، غير المسؤولة والمدانة؟ ألا يشكل هذا اللجوء المجحف لمفهوم الحصانة السبب الرئيسي الذي أدى إلى الانحراف وتشويه معنى الحوار والخطاب داخل مجلس ممثلي الشعب؟ ألم تكتف الحشود من تلك المشاهد المجسدة للكراهية والأنانية؟ إلى شعب يتوق لمفهوم السعادة، هل بهذا الأسلوب يتم بعث وإرساء الأمل والطمأنينة؟

من مشهد "فن إلقاء وتبادل التهم والتهديدات" إلى مشهد أخير ألا وهو مشهد "رفعت الجلسة". كثيراً ما يُحتكم إلى هذا الإجراء لإقرار نهاية للمشاحنات والتهديدات والصراعات داخل المجلس. فمظاهر الاضطرابات والاختلالات والفوضى أطبقت على ذلك المجال الحزبي المقيت الأمر الذي يجعل من مواصلة العمل التشريعي فعلاً محالاً.

يتوقف عن ممارسة فعل القلم ليرمق تلك الكلمات التي دونها. إنه وبكل اختصار، يسعى إلى مواصلة انتقاد حالة الإحباط والتشاؤم التي تلازم تعاقب الأحداث اليومي. يبدو أنّ المشهد السياسي لا يزال يفرض سيطرته على كل ما هو اجتماعي، إذ إن تجلياته المجحفة أدت إلى نفي كل مظاهر التفاؤل والأمل والرغبة في إرساء "واقع أفضل"، عبارة مثلت جوهر الخطابات الحزبية سابقاً.

DD9C7DB9-511D-46DD-9256-EDAEC04C4139
إسماعيل الهدار

شاعر وكاتب تونسي، باحث في القانون العام بكلية الحقوق في صفاقس.