ذات مساء بغدادي

10 ديسمبر 2016
+ الخط -


كانت الشمس على موعد مع رحيل آخر. كل شيء كان يتآمر على الوحدة. خلا البيت من الجيران، كلهم ذهبوا، لم يعد الليل أمينا في بغداد كما عهده. كان موحشا. بدأت تجتاحه نوبات غضب؛ غضب على أبناء المدينة التي لم تعد تغفو على ضفاف نهرها، دجلة.


بقي في البيت وحيداً، الا من خيالات نفسه وبقية من أهل. كانوا يستعدون لفجر لا يشبه أي فجر آخر، كما هو. كان يستعد لفجر أشبه ما يكون بالفجر الكاذب، ليس ذاك الفجر الصادق.


جلس وسطهم. كان الجميع يحاول أن ينسى الفجر الذي لا بدّ أن يأتي. ضحكوا. تذكروا شيئًا من ماض بات بعيداً جداً، كانت أمه تضحك، يراها فيضحك، يشعر بالاطمئنان، لن تبكي إذاً؟ هكذا كان يردد مع نفسه.


والده كان يحدثه عن نوري سعيد باشا، رئيس وزراء العراق إبان الحكم الملكي، وكيف كان يتعاطف مع الناس إلى درجة أنه كافأ رجلا كان يسبه كل يوم، وهو في طريقه إلى مبنى الوزارة، بعد أن استدعاه ليسأله عن السبب الذي يجعله يوجه له شتائمه كل يوم: 

- "باشا إني اشتغل 12 ساعة باليوم وأتعب وما أحصل ربع دينار، وسمعت أنكم تدفعون للسجين ربع دينار يومية، فقررت أن أشتمك علك تذهب بي إلى السجن فأقبض ربع دينار، وأني نايم بالسجن"... فكافأه الباشا وسعى لإيجاد فرصة عمل له وأطلق سراحه.


غير أن ذاك عهد لم يطل يا والدي. سريعا خبا. سريعا قرروا أن يسحلوا الباشا في شوارع بغداد، ربما لأنه بغدادي أصيل، كان يحب بغداده وعراقه، سريعا يا والدي، كما هم اليوم، سريعا أحالوا بغداد إلى ذكرى وماضٍ.


نهض ، قلب مكتبته، راح يتصفح كتبا اشتراها. كان يمهر كتبه باسمه بعد أن طبع الاسم على ختم قلم أهداه إياه صديقه الذي رحل مبكرا، بعد أن أحالت رصاصات قناص أميركي جسده على ورقة مليئة بالثقوب.


هذا كتاب من شارع المتني، وذاك الكتاب اشتراه ذات جمعة من شارع المتنبي، والثالث الذي كان يعتز به كثيرا  أيضا من شارع المتنبي.


توقف، إنه المتنبي العظيم، الذي رافقنا سنوات طويلة، شاعرا وشارعا، مخزون من الذكريات والحكايات والحكم، وجلسات أصدقاء ومقاه وقصص عن آخرين رحلوا مبكرا، بعد أن أيقنوا أن المتنبي يحتضر. سيموت ويموتون معه. فقرروا الرحيل، حتى لا يشاهدوا متنبيهم يموت قبلهم.


سكن الليل، ثقيلا كان، كما ليس في كل مرة، مرعبا، حالكا حد العتمة التي لا تنيرها كل مصابيح الكون.

ذهب إلى فراشه، عانق وسادته "ربما هي المرة الأخيرة التي سأغفو هنا، لا أدري إن كنت سأعود إليها مرة أخرى؟ سأعود إلى غرفتي، موئل ذكرياتي، مستودع كل ليالي الشوق والحنين والحب الأول الذي لا يعود".


عاندته ساعات الليل على قصرها، ترفض أن تمنحه فرصة غفوة ولو بسيطة، نهض بعد أن بدأ خيط الفجر ينسج أول ثيابه على ذاك الليل الأسود البهيم.

كان الجميع قد غادرهم النوم تلك الليلة، أمه وأباه، إخوته، أخواته. سريعا، حاول أن يبتعد عنهم، انشغل بتفاصيل حزم آخر حقائبه، كانت السيارة التي ستقله إلى اللاوطن تقف عند باب بيتهم.


أخيرا، كان حضن أمه، بعد أن احتضن أباه وبقوة، كان شعرها الذي خط البياض تفاصيله السوداء بقوة، قد ظهر من خلف فوطتها البيضاء. تماسكت. صبرت. قبل أن تجهش ببكاء حار، قابله بكاؤه، قبل أن يسمع صوت سائق السيارة ينادي من خلف المقود "حجية هي كلها كم يوم ويرجع توكلي على الله".


نبهه الصوت، فتح باب السيارة. ركب. سارت. كانت أكفهم التي تلوح له ترافقه حتى غابت السيارة، وغابوا، وغاب، ومضت الـ "كم يوم" ولم يعد، ولم يعودوا، ولم يعد مساء بغداد ولا نهارها، وغاب في اللاوطن، بحثا عن ذات ماتزال معلقة على أعتاب وطن، على أعتاب باب بيتهم العتيق في بغداد.

 

 

دلالات
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...

مدونات أخرى