كل بلاد الدنيا ترفع الحكايات عنواناً لثقافتها الشعبية، والبعض فقط من يصبح حكواتياً. وكل البلاد، في ظروفها الطبيعية وتحولاتها المجتمعية، تطور في موروثها الحكائي، فتدفع بعضه إلى الواجهة ويتراجع بعض آخر، وتزيد وتنقص.
في فلسطين، ضربت النكبة ظهر المجتمع. فالكيان الذي تأسس على أرض ليست له، عليه أن يسجّل هويتها باسمه، ومن ذلك، الحكايات التي سيضعها تحت عنوان "حكايات من أرض إسرائيل".
تغادر دينيس عالم الأجهزة الطبية، لتعود ثانية في بداية التسعينيات إلى مقاعد الدراسة الجامعية، فتدرس الأدب المقارن والتربية، وتعمل باحثة في أدب الأطفال، عندما كان في بداياته بالبلاد وبالوطن العربي.
في جريدة "الصنارة" النصراوية (نسبة إلى مدينة الناصرة) تولّت مسؤولية صفحة لأدب الطفل "أنا النحلة أنا الدبّور"، واشتغلت في المجال ذاته بصحيفة التجمع الوطني "فصل المقال".
بدأت دينيس أولى فعاليات الحكي مع أولادها، ثم أصبح البيت مسرحاً لأطفال آخرين من الجيران والعائلة، وصولاً إلى مشاركتها في ورشات فن الحكي العربية. وفي ورشة العاصمة الأردنية عمّان عام 2004، التقت المخرج المسرحي المصري حسن الجيرتلي الذي أقنعها باحتراف الحكي، وهو ما كان.
دربت دينيس بين 2006 و2015 المئات في فلسطين، وتسعة مخيمات بالأردن، وفي تونس أكثر من مئتي فنان وطالب وأمين مكتبة.
دربت المئات على فن الحكي، ما أهمية ذلك لديك؟
لدي قناعة بأن تدوين الحكاية وإن كان يحفظها من الضياع، لكن لكي تبقى حيّة ينبغي للحكاية ألا تسجن في سردية واحدة مكتوبة، بل أن يتناقلها الناس.
وأكرر دائماً للكبار والصغار أن مكان الحكايات في القلب، وأطلب في كل مرة من الأطفال أن يفتحوا عيونهم وآذانهم وقلوبهم، وفي نهاية كل حكاية عندي مقولة خاصة بي وهي "حكايتي حكيتها وبقلوبكم حطيتها ويا ريت تحبوها زي ما أنا حبيتها".
ولأن الحكاية في القلب فهي سرّنا الذي ننقله في أنحاء البلاد، ونعبر الحواجز دون أن يكشفها أي جهاز أمني، ونتجول بها في العالم، ولا تستطيع أجهزة المطارات كشفها. الحكاية الشفوية مرتبطة أكثر من المكتوبة بنبض الأرض وقلوب الناس.
كيف تبنين موقفك النقدي من الحكاية؟ متى تقررين أنها لا تمثلك ولن تسرديها؟
من خلال مراجعتي مضامين الحكاية، وأهمها الإنسانية، فأنا أرفض التعامل السلبي مع من يختلف عنا في لونه، مثل حكاية "جبينة" التي فيها "العبدة السودا"، تصبغ نفسها بالكلس الأبيض، وتصبغ جبينة بالسخام الأسود، لتأخذ مكانها كي يتزوجها الأمير.
أرفض كذلك النظرة الدونية للمرأة. ففي حكاية الديك الهادر، يبدأ الديك بمقايضة القمحة بطحين، وتستمر سلسلة المقايضات حتى يقايض أخيراً الجاموسة بالعروسة، ولأن هذا ضد قيمي بدّلت النهاية وجعلت الديك يحصل مقابل الجاموسة على تاج العروسة، ليصبح العُرف الذي نراه على رؤوس الديوك.
بعد الموهبة، ما الأسس التي تجعل الحكواتي جاهزاً لمقابلة الجمهور؟
لا بد من امتلاك مخزون كبير من الحكايات التي أعدَّها لتكون حكاياته، وعليه أن يدرك ماهية جمهوره من الكبار والصغار، وأن يعرف كيف يضيف وينقص من الحكاية، ليبقى الجمهور متلهفاً لمتابعته.
والحكواتي الجيد يكون واعياً للوقت المحدد له، إذ تعتمد الحكاية على تسلسل الأحداث، ولا تحتمل كثرة الكلام والوصف والتفاصيل، والمواعظ.
في النهاية، وبعد تجاوز الحديث عن الجدارة، ستكون الحكاية مثل الطبخة التي لها المعايير ذاتها، لكن مذاقها مختلف من طبّاخ إلى آخر.
هل عرفت فلسطين من قبل امرأة حكواتية؟
قبلي لم تحترف أي امرأة فن الحكي الذي احترفته بشكل رسمي عام ٢٠٠٤، بعد عدة ورشات شاركت فيها في البلاد والأردن ومصر، ومثلت فلسطين في عدة مؤتمرات علمية ومهرجانات حول الحكاية الشعبية بوصفي باحثة في أدب الأطفال وفنانة حكواتية.
سأقول لك شيئاً، حينما بدأت مسيرتي المهنية قوبلت بالاستهزاء من جماعة المسرح، وبالجملة لم يكن هناك اعتبار لمهنة الحكواتي. واليوم تغيّر الحال وأصبح كل فنان مسرحي حريصاً على إضافة نيشان الحكواتي إلى ألقابه.
نالت هذه المهنة التقدير وزاد الوعي بأهمية الحكاية في بلادنا العربية، متأخرين عشرين عاماً عن أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، التي لديها تخصص أكاديمي في هذا الشأن ومئات المهرجانات سنوياً.
ما الذي تخشينه على الحكاية الفلسطينية؟
أخشى تشويه ملامحها من أناس يسردون دون أي موهبة، ودون أي إلمام بميزات الحكاية وطريقة إعدادها، فسماع بضع حكايات لا يجعلك حكواتياً، كما أخشى عليها من الثقلاء. لا يؤذي الحكاية أكثر من ثقيل يرويها.
هل شاركت بوصفك حكواتية في عروض فنية مشتركة؟
بالتخصص أنا قادمة من عالم الحكي لا الدراما، لكن لدي مشاركات في ورشات في مهرجانات عربية وأجنبية وطورت مهاراتي الدرامية، فالفنون تقترض من بعضها.
كانت لي تجربة قبل سنتين مع صبيتين، ممثلة وموسيقية، وعملنا عرضاً مشتركاً فرحت به باسم "نساء يرقصن مع الذئاب".
ولعدة سنوات عرضت مع كمال خليل مؤسس فرقة "بلدنا" في الأردن، والذي رافقني بالعزف والغناء.
على صعيد العمل المؤسسي، ماذا تقولين لنا؟
من المهم القول إننا استطعنا الوصول إلى قرار من اليونيسكو عام 2005 باعتبار حكاياتنا الفلسطينية كنزاً عالمياً، يجب الحفاظ عليه. ترافق ذلك في العام ذاته مع صدور "دليل فن سرد الحكايات والقصص" ووزع بآلاف النسخ على المدارس، وتدرّب مئات المعلمين على استعماله.
وكانت إعادة الحكاية الشفوية إلى مركزيتها مشروعاً وطنياً ضمن "الخطة الوطنية لأدب الأطفال" التي كُتبت عام ١٩٩٧، ولحسن حظي كنت باللجنة التي كتبت الخطة، وعملت على تنفيذها بين 1998 و2000.