ديفيد لينش.. كابوس مستمر

14 ابريل 2017
(مشهد من فيلم: كلب أندلسي)
+ الخط -

ارتبطت السريالية في الأذهان بالمشهد الشهير في فيلم (كلب أندلسي) لسلفادور دالي ولويس بونويل، حين تعرض لقطة (close up) لوجه امرأة، وتقوم يد ممسكة بموسى بشق عينها فيخرج من مقلتها عسل النحل.

نستطيع من هذه اللقطة استخراج مفهوم السريالية السينمائية، فهي عرض لمشاهد حلمية لاواعية ولا منطقية، مع بناء غير تصاعدي للأحداث، فالأحداث لا تمرّ بصورة خطيّة أو دائرية أو متوازية؛ هي مجموعة مشاهد لا يجمعها منطق واع في عرضها. ربما من اللائق وصف السريالية بأنها السينما الموازية لسينما الوعي بكل مدارسها وبكل طرق سردها الخطية والدائرية والمتوازية والانقلابية.

في عام 1941، ولد المخرج والكاتب والفنان التشكيلي والعازف الموسيقي ديفيد لينش، والذي أصبح من روّاد السينما السريالية حاليًا، وساهم بكل تأكيد على بقائها في الصورة.

لـ ديفيد لينش مكانة سينمائية عند الأكاديميين والنقاد، خصوصًا في أوروبا أكثر من موطنه الولايات المتّحدة ويوصف دائمًا بأنه يحلق في أطراف السينما ويبتعد عن مركزها بتمرّده واستقلالية أفلامه ذات الإنتاج المنخفض، والتي تظل غالبًا تصور لسنوات لضعف الجانب الإنتاجي.

ولعل آخر تكريم حصل عليه هو تصدر فيلمه (طريق ملوهلاند) قائمة الـ bbc الثقافية لأفضل 100 فيلم في القرن الحادي والعشرين. هذه القائمة ساهمت في انتشار الفيلم جماهيريًا وبالتبعية بقية أفلام لينش.

أول افلام لينش الطويلة كان (رأس الممحاة) 1977، في هذا الفيلم الذي يعتبره لينش أكثر أفلامه ذاتية والذي كتبه بعد مولد ابنه الأوّل، يعرض مشاهد لاواعية يظهر فيها رؤيته النقدية لقبح العصر الصناعي وهدير الآلات وانعكاس ذلك القبح علي العلاقات الشخصية والجنس والإنجاب.

الفيلم كعادة الأفلام السريالية القديمة، مليء بالرموز الفرويدية التي تعبر عن مركزية الجنس والشهوة. وأنهى لينش فيلمه بتتابع سريالي خالص، بعرض مشاهد متتالية ومتفرّقة، حيث نرى الطفل الذي يشبه الحيوان المنوي، والعضو الذكري الذي يخرج من الرأس، والفراخ الحيّة المطهوة، والكهف المظلم. (رأس الممحاة) هو أكثر أفلام لينش سريالية وأكثر أفلامه غير الملتزمة بقواعده التي أرساها في أفلامه السريالية التي أعقبت هذا الفيلم.

يبدأ لينش أفلامة عادة بأغنية أو عرض راقص، الأغاني بصفة عامة في أفلام لينش لها مكانة مركزية، فأغنية الاستهلال تعبّر عن الشعور الكلي للفيلم وموضوع معاناة شخصياته، أما الأغاني التي تعرض في فصول الوسط فهي كذلك تعبر عن الحالة الشعورية الجزئية في هذا الفصل. لعل من يريد تخيل حكاية لفيلم (lost highway) فلن يجد أفضل من أغنية البداية لمساعدته، وأغنية silence في فيلم طريق مولوهلاند.

أما الملمح الثاني في سينما لينش؛ فهو (التنفّس المرهق) الذي يعرض في نهاية أغنية أو عرض البداية وقبل بداية الأحداث، التنفس المرهق إشارة للانتقال من حالة الوعي لحالة اللاوعي. فأفلام ديفيد لينش ككل الأفلام السريالية تدور في اللاوعي مع القليل جدًا من المشاهد الواعية لإعطاء المشاهد الفرصة في تفسير القصّة كما يراها، وتلك هي الرخصة التي أعطاها لينش طواعية للمشاهد في رؤية القصّة كما يريد.

الشخصيات التعبيرية تعتبر جزءا مركزيا من أفلام لينش، وهي شخصيات لا يكون لها أهميّة كبيرة في الأحداث سوي إثبات وجود الشر المطلق الذي يسيطر على حياة وعالم أبطال أفلام لينش. إنهم يمثلون كل أشكال القبح الرأسمالي والتشوّه الجنسي ونشر العصابات الإجرامية وتجارة العبيد والقتلة وتجار السلاح. إنهم كل ما يمثل الشرّ ويصوّرهم لينش بصورة هزلية تشبه صورة الأشخاص الشريرة في الأفلام الصامتة.

يقول جون أور عن شخصيات لينش التعبيرية، إنه على الرغم من أن لينش يقدم سينما تقدّمية في الصورة والسرد، إلا أنه يميل للاختيار الرجعي في تصوير الشخصيات التعبيرية.

ومن الشخصيات المتكرّرة في أفلام لينش شخصية (الغريب/ة)، رجل أو امرأة غريبا الأطوار لديهم قدرة ميتافيزيقية، يقومان بإعطاء رسالة غامضة غير مفهومة للبطل، ولكن تلك المعلومة أو الرسالة تكون بداية أحداث الفيلم. مثل الرجل الغامض في (lost highway)، الرجل المرعب في طريق ملوهلاند، الجارة في (إمبراطورية الداخل).. إلخ.

تدمج سينما لينش بين الخير والجمال المطلق، والشرّ والقبح المطلق. يريد لينش تمثيل صراع الأضداد في كل وقت. في المشهد الافتتاحي لفيلم (المخمل الأزرق) تعرض صور متفرّقة من أحد الولايات الهادئة الجميلة حيث زهور الربيع ورجال المطافي المتعاونين والأطفال السعداء والحدائق الخضراء.

ثم تنتقل الكاميرا لتربة تلك الحدائق فنرى الطين والحشرات والديدان القبيحة، وعندما أراد ديفيد لينش وصف قصة فيلم طريق ملوهلاند في المؤتمر الصحافي في "مهرجان كان" قال: "طريق ملوهلاند هو طريق في هوليود رائع الجمال نهارًا ولديه إطلالة مميّزة على مدينة لوس أنجلوس. ولكنه في المساء يتحوّل لطريق مظلم ومخيف". وفي أفلام لينش تنتشر الأضداد بشكل واضح، فهناك الشباب والطاعنين في السن. الحالمين واليائسين. الخيرين والمجرمين ألخ.

وتعتبر الستارة الحمراء من العلامات البصرية المتكرّرة في أفلام لينش، فالستارة الحمراء هي الفاصل بين الوعي واللاوعي بين الحلم والحقيقة، وتخفي الظلام المخيف أو منها يتسلّل الظلام لعوالم لينش. تتواجد الستارة الحمراء في كل أفلام لينش ولكنه خصّها في فيلم (المخمل الأزرق) بأكثر من مشهد حيث نرى الستارة تداري غرفة في بيت البطلة، لا تدخل الكاميرا الغرفة إطلاقًا، ولكن يظهر ظلام تامٌ ومخيف خلف الستارة.

الوصف الأدقّ لكاميرا ديفيد لينش بأنها قلقة. فكما تبدأ أفلام لينش بصوت التنفّس القلق المتقطّع تعكس الكاميرا هذا القلق. فهي في النهاية تصوّر كابوسًا. نعم أفلام ديفيد لينش تبدو وكأنها كابوس مستمرّ لساعتين وأكثر.

يتفنّن لينش في عكس القلق للمشاهد بوضعه كراءٍ للأحداث عن طريق استخدام أسلوب (قوّة النظر)، حيث تحلّ الكاميرا عين المشاهد. ويتوحّد المشاهد مع البطل ويصبح (مزدوجًا) له.

في النهاية يجب الإشارة لتمرّد لينش حتى في استخدامه للتقنيات، فهو لم يخجل بتصويره فيلم (إمبراطورية الداخل) بكاميرا رقمية، فهو يرى في النهاية أن كل أشكال التقنية الحديثة والقديمة يُمكن أن توظّف وتخدم رؤية المخرج. وسيظل لينش علامة فارقة في تاريخ السينما السريالية والأميركية.

المساهمون