قبل بضعة أشهر، حينما سُئلت الناطقة الرسمية السابقة في وزارة الخارجية الأميركية، هيذر ناورت: "باسم من يتكلم هذا الرجل"؟ أي السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، الذي أعرب آنذاك عن انشراحه لرؤية صورة للقدس جرى تحويرها بحيث لم يظهر فيها المسجد الأقصى، خلا ردها من الإدانة كما من دعوة السفير للتراجع عن تعليقه الاستفزازي.
السؤال نفسه تقريباً تكرر اليوم ولو في سياق آخر: هل قول السفير فريدمان بأن من حق إسرائيل ضم جزء من الضفة الغربية يمثل سياسة الإدارة؟ أي هل هو ينطق باسمها؟ جواب المتحدثة الرسمية في وزارة الخارجية، مورغان أورتاغوس، جاء بصيغة فيها كل شيء إلاّ الرد على السؤال، إذ قالت إن "سياسة أميركا تجاه الضفة والمستوطنات لم تتغير ولا أعتقد أن هناك أي جديد الآن للحديث عن هذا الموضوع". كل ما انطوى عليه كلام السفير من خطورة وتحريض فجّ على الضم، لم تر الخارجية فيه ما يستحق التوقف عنده؛ علماً بأنه أثار اعتراضات وتحذيرات أميركية مختلفة، سواء في الكونغرس كما في أوساط خبراء السياسة الخارجية، مثل رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس الذي نبّه من عواقبه.
وبدا أن قلق هذه الجهات مزدوج. فمن جهة هي متخوفة من تبعات سياسة الضم الإسرائيلي التي احتضنتها إدارة دونالد ترامب وشجعت عليها من غير أي تحفظ. ومن جهة أخرى هناك عدم ارتياح لدى جهات كثيرة من الدور الذي يلعبه السفير فريدمان الذي يتصرف كوزير مفوض يرسم السياسات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وتتولى وزارة الخارجية دور التغطية عليه لتمريرها. بل صار يتصرف كمسؤول تنفيذي أكثر منه كدبلوماسي، وكأنه "فاتح سفارة على حسابه".
سابقة دبلوماسية أثارت الضيق حتى لدى الأوساط المؤيدة لإسرائيل في أميركا. أواخر الأسبوع الماضي، طرح عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، مشروع قرار يعارض أي خطوة إسرائيلية لضم أجزاء من الضفة. القرار غير ملزم ولا حظ له في النجاح. لكن ذلك لا يفقده أهميته كونه يعبّر عن تململ في المؤسسة التي تشكل معقل النفوذ الإسرائيلي في واشنطن.
وهذا التحرك عزز الاعتقاد بأن قنبلة فريدمان ليست هوائية ولا هي محاولة لجس النبض، بل هي مقدمة وتمهيد لخطوة يعتزم نتنياهو الإقدام عليها. ربما قبل الانتخابات لتحسين فرص فوزه فيها، وخصوصاً أن أجندة "سفير المستوطنات" تشمل ضم الضفة، كما شملت الاعتراف بالقدس ونقل السفارة ومحاولة شطب قضية اللاجئين من خلال قطع المعونة عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن.
كلها إجراءات لعب فيها السفير دور المهندس الرئيسي لنقلها إلى حيز التنفيذ. ولو أن هناك سيناريو آخر يرى في تلويح فريدمان بالضم محاولة منه عشية "ورشة البحرين" للضغط على السلطة الفلسطينية بغية حملها على المشاركة في بازار المنامة. ومن التفسيرات أنه أراد بكلامه الرد على وزير الخارجية، مايك بومبيو، الذي فاتح القيادات اليهودية الأميركية مؤخراً بموضوع الضم المطروح وأبلغها بوجود "خطة لدى الإدارة للتعامل معه" إذا تحقق.
وقيل إن الوزير أعرب عن أهمية وقف هذا التوجه لأنه يعطّل على "صفقة القرن". ويذكر أن الناطقة باسم الخارجية شددت أمس على أهمية "القول من على هذا المنبر بأن سياسة الإدارة في الضفة لم تتغير". ثمة من رأى في ذلك تنصّلاً مبطّناً من كلام فريدمان. لكن سوابق إدارة ترامب مع القضية الفلسطينية لا تسمح بالذهاب إلى هذا الحد في التفسير. ثم إن معزوفة "سياستنا تجاه المستوطنات لم تتغير" صارت مفضوحة وبالية. المقصود فيها عملياً أنها لم تغير سياسة السكوت على تمدد الاستيطان.
هكذا كان الحال في زمن الإدارات السابقة وهكذا هو الآن وأكثر. وحتى لو كانت إدارة ترامب اليوم ضد ضم جزء من الضفة لحساباتها في المنطقة، فلا ضمان أن تبقى على هذه الحال وهي المعروفة بتقلب أحوالها ومواقفها.