قفزت محافظة دير الزور، في أقصى الشرق السوري، إلى واجهة الاهتمام الإعلامي مع إعلان قوات النظام، التي تساندها مليشيات محلية وإيرانية، كسر حصار تنظيم "داعش" للمدينة، فيما يتوقع أن تدور قريباً معركة كبرى، بهدف انتزاع السيطرة على المحافظة من "داعش"، الذي يتلقى ضربات تهدد وجوده في سورية والعراق.
وتقف محافظة دير الزور، التي عانت من إهمال نظام الأسد الأب والابن طويلاً، على أعتاب "كارثة" يتوقع أغلب المراقبين للمشهد السوري حدوثها، إذ يخوض التنظيم معركته "الأخيرة" في سورية، في مساحة جغرافية واسعة مرتبطة بغرب العراق، في ظل سباق بدأت تظهر معالمه بين الروس والإيرانيين من جهة، وبين التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الساعية إلى فرض نفوذها على كل الشرق السوري. وتعد محافظة دير الزور ثاني أكبر المحافظات السورية من حيث المساحة بعد محافظة حمص، إذ تربو مساحتها عن الثلاثين ألف كيلومتر مربع، وتتميز بريف مترامي الأطراف، إذ تصل حدودها الإدارية إلى قلب البادية السورية ليس بعيداً عن بلدة السخنة. وتحد دير الزور من الجنوب البادية، ومن الغرب محافظة الرقة، ومن الشمال محافظة الحسكة، ومن الشرق محافظة الأنبار العراقية. وتتمتع دير الزور، مدينة وريفاً، بأهمية استراتيجية تفسر التنافس المحموم عليها بين النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وبين التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، الذي يعتمد على "قوات سورية الديمقراطية" في محاربة "داعش"، والتي تتمركز غير بعيد عن الحدود الإدارية الشمالية لدير الزور.
ويضم باطن أرض محافظة دير الزور ثروة نفطية هائلة، وعلى ظاهر أرضها ثروة زراعية، إذ يمر نهر الفرات في وسط دير الزور، شاطراً إياها إلى قسمين، جنوبي يطلق عليه أهالي المنطقة تسمية "الشامية"، وشمالي معروف باسم "الجزيرة". كما أن دير الزور تعد امتداداً جغرافياً لمحافظة الأنبار العراقية، وقام التنظيم إبان اندفاعته الكبرى، في عام 2014، بإزالة الحدود بين البلدين إثر سيطرته على كامل ريف دير الزور. كما تتميز ببيئة قبلية، إذ ينتمي أبناؤها لكبريات القبائل العربية، مثل الجبور، والدليم، والبو شعبان، وسواها من القبائل التي تتفرع عنها عشرات العشائر التي تملك امتداداً في محافظة الأنبار العراقية. وتفتخر محافظة دير الزور بوجهها العربي الخالص، حيث لا يوجد في المحافظة كلها سكان من قوميات أخرى موجودة في محافظات سورية أخرى.
وأهمل نظام الأسدين محافظة دير الزور بطريقة ممنهجة، مكتفياً بالسيطرة على خيراتها لدعم ميزانيته، حيث كان ريفها من أكثر الأرياف السورية فقراً وتهميشاً، ما جعل منه "بيئة طاردة" لأولاده الذين توزعوا في عدة محافظات، أبرزها العاصمة دمشق، والرقة، وحمص، بحثاً عن حياة أفضل. وكانت دير الزور من أولى المحافظات السورية استجابة لنداء الثورة، إذ كانت العلاقة متوترة بين أبناء المحافظة والنظام بسبب التهميش المتعمد من قبل الأخير لهم، فشهدت دير الزور واحدة من كبرى تظاهرات الثورة، مع زحف آلاف الديريين في يوم "الجمعة العظيمة" في 22 إبريل/ نيسان2011 إلى ميادينها، معلنين نهاية مرحلة كاملة من تاريخ المحافظة، كان الإهمال عنوانها الأبرز. ومع اشتداد وطأة الأجهزة الأمنية التابعة للنظام على المعارضين، وارتكاب المجازر بحق المدنيين، بدأت تتشكل فصائل للجيش السوري الحر، التي استطاعت منتصف عام 2012 طرد النظام من عدد من الأحياء، فيما بقي النظام محصوراً في عدة أحياء، فضلاً عن مواقع عسكرية في محيط المدينة، أهمها المطار العسكري. لكن مدفعية النظام ومقاتلاته الجوية دمّرت أحياء كاملة في مدينة دير الزور، ولم تتورع، في مايو/أيار 2013، عن تدمير أبرز معالم المدينة، وهو جسرها المعلق على نهر الفرات، والذي كان يربط بين شطري المدينة، ويعد من الجسور النادرة في العالم، إذ بناه الفرنسيون في عشرينيات القرن الماضي إبان وجودهم في سورية.
وكان الجيش السوري الحر قد نجح بالسيطرة على ريف المحافظة، الذي يضم أهم آبار النفط في سورية، وهو ما شكّل نقلة كبيرة في مسيرة الثورة السورية، مع فقد النظام أهم مصادر تمويله. لكن فصائل في الجيش السوري الحر انشغلت بآبار النفط والغاز، وما تدره من أرباح طائلة، في وقت بدأ تنظيم "داعش" يظهر على أطراف المحافظة، متحيناً الفرصة لينقض على فصائل الجيش الحر، وهذا ما تحقق في عام 2014 إثر السيطرة على الرقة، إذ بدأ التنظيم يسيطر على ريف المحافظة، وصولاً إلى طرد الجيش الحر من مواقع سيطرته في المدينة، فتغيّر المشهد كله في محافظة دير الزور، فأصبحت "ولاية الخير" عند تنظيم "داعش". وتحولت دير الزور إلى معقل بارز للتنظيم، خصوصاً في مدينتي الميادين والبوكمال، حيث يمتد الريف الشرقي على مساحة تتعدى 100 كيلومتر. لكن "داعش" فشل في السيطرة على كامل المدينة رغم محاولاته المتكررة، وخصوصاً على المطار العسكري الذي بقي بحوزة قوات النظام التي تحصنت داخله. وحاصر التنظيم المطار والأحياء القريبة منه، التي تقع تحت سيطرة النظام وتضم عشرات آلاف المدنيين، وهو ما تسبب بكارثة، فضلاً عن قصف مستمر أدى إلى مقتل المئات من المدنيين، في وقت قتل طيران النظام، والطيران الروسي، المئات من المدنيين في مناطق سيطرة التنظيم في المدينة وريفها.
وكانت دير الزور قبل تولي حافظ الأسد السلطة في عام 1970 في قلب المشهد السياسي والثقافي السوري. وكان لعدد من أبنائها أدوار مهمة أسهمت إلى حد بعيد في تشكيل وجه سورية المعاصر، في المجالات الفكرية والسياسية والعسكرية. وتعتز دير الزور، التي يحلو لأهلها تسميتها بـ"درة الفرات"، بعدة شخصيات تركت أثراً واضحاً في الذاكرة السورية، منها المفكر والعلامة محمد سعيد العرفي، إضافة إلى المفكر ياسين الحافظ، وجلال السيد الذي كان من مؤسسي حزب "البعث"، ويوسف زعيّن رئيس الحكومة السورية بين عامي 1965 و1970، فضلاً عن شعراء وفنانين. وشهدت دير الزور العديد من الاحتجاجات على نظام حافظ الأسد، لكن الاحتجاجات الأشد كانت في آذار عام 1980، إذ شهدت المدينة إضراباً شاملاً، إلا أن القوات العسكرية والأمنية التابعة للنظام نجحت في إنهائه، واعتقلت أكثر من 300 معارض، تم إعدامهم في سجن تدمر وفق مصادر مطلعة. ودير الزور، التي هجرها أغلب أهلها نتيجة بطش النظام، ومن بعده تنظيم "داعش"، تنتظر مصيراً جديداً مجهولاً، إذ من المتوقع أن تفعل قوات النظام، والمليشيات الإيرانية، كل شيء للسيطرة على المحافظة الاستراتيجية في سياق صراع معقد يتصاعد على سورية.