دونت ميكس
هناك أشياء لا يُخلط بعضها ببعض. نتذكّر القول المأثور لمحمد مرسي إنَّ "الجاز والكحول دونت ميكس". فلا يجوز أن تشرب كحولاً وتسوق سيارة. هذه خلطةٌ تؤدي الى حوادث، أو كوارث، سير. لكن الكحول و"الجاز" (يقصد البترول) يهون أمر "خلط"، أحدهما بذاك، أمام "الميكسات" التالية:
القمع وسوء الحياة المعيشية. الأهازيج الوطنية المزيفة والتفريط بالأرض. محاربة الإرهاب وزجّ المعارضين السياسيين (وليس الإرهابيين) في السجون. التنطّح لأدوار إقليمية والفشل في إدارة بلدية مدينة.
هذه خلطاتُ إن اجتمعت في أي بلد تكون بينها والدول الفاشلة خطوة. فالناس قد تحتمل القمع السياسي، عندما يوفِّر نظام بلادها لقمة العيش لها. وقد تتحمّل الجوع، عندما تكون كرامتها مصانةً ورأسها مرفوعاً. وتقبل، بطيبة خاطر، أن تشدَّ الحزام في إطار مشروع وطني. لكنها لا يمكن أن تحتمل القمع والجوع معاً، الجوع والشعور بالدونية بين الشعوب والأمم. إما هذا أو ذاك. ولكن ليس الاثنان معاً، حيث لا تعويض معنوياً عن الضنك المادي، ولا بحبوحة مادية في ظل احتكار السياسة بيد حزبٍ أو قائد. وفي هذا السياق، يقارن بعضهم، قوى وشخصيات، بين نظامي عبد الناصر وعبد الفتاح السياسي. هذا أيضاً من الأمور التي "دونت ميكس". لا يكفي أن يكون الرجلان قادمين من الجيش، حتى يصنعا نظاماً متشابهاً، فالسادات جاء، مثل عبد الناصر، من الجيش، واختبأ في الظلال الطويلة لزعيم حركة الضباط الأحرار، ولمّا تسلَّم الحكم، بضربة حظ، بعد رحيل عبد الناصر انقلب، بما يشبه الانتقام، على إرث زعيمه السابق. يصف الإعلام المصري الرسمي السادات بأنه "بطل الحرب وبطل السلام"، والحال أنه لم يصل بالحرب إلى نصر حاسم، بل أرادها مدخلاً لـ "سلامٍ" مصري وعربي مع إسرائيل، يشبه الاستسلام، لم تنته مفاعليه المأساوية حتى اليوم. لم تجع مصر، وتهاجر بحثاً عن لقمة عيش، وينقلب عاليها سافلها، إلا في عهد "بطل الحرب وبطل السلام".. وظلت على هذه الحال إلى يومنا، على الرغم من تعاقب حكام قادمين من الجيش. لكن جيش عبد الناصر ليس جيش السادات.. أو تحديداً ليس جيش السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد. فالأخير جيشٌ أعيد بناؤه على عقيدة حربية مختلفة تماماً، سقطت منها إسرائيل، باعتبارها العدو الرئيسي لمصر والعالم العربي. وهذا جيش تسلَّم أموره الأميركيون تدريباً وتسليحاً وتثقيفاً، لكي يلعب أدواراً داخلية، على غرار جيوش عربية أخرى، وليس على "الجبهة". فلم تعد هناك جبهةٌ أصلاً. الجبهة، مثل الجيش السوري، صارت الشعب، ويتوجب على الجيش (حماة الديار) أن يعيده إلى حظيرة الطاعة التامة، الأبدية، للزعيم القائد، أو يفنى عن بكرة أبيه. لم تصل مصر إلى هذا المستوى من ربط النظام بشخص، أو عائلة، أو طائفة، لأنَّ تركيبتها الاجتماعية وتاريخها السياسي مختلفان عن سورية.
لكن، فليسمح لنا مُشبِّهو السيسي بعبد الناصر، فلا شيء يجمع بين الرجلين، لا شكلاً ولا مضموناً. شتان بين رجلٍ يرى إسرائيل عدوّه وعدو أشقائه ورجل "دافئ" و"حنون" معها. وشتان بين رجلٍ حارب الاستعمار وطرده من مصر، ورجل مستعد لفعل أي شيء لكي يرضى عنه الاستعمار ويقرُّ بشريعته. وشتان بين رجلٍ بحجم مصر، تاريخاً وواقعاً بشرياً ونهضوياً، ورجل قزَّم مصر، لتكون بحجمه، ويراها، وهو حاكمها، "شبه دولة".
لا تعميني هذه المقارنة التي لا وجاهة لها عن السجل غير الديموقراطي لنظام عبد الناصر، عن زجِّه، هو أيضاً، معارضيه في السجون، عن تركه نظاماً يمكن لرجلٍ بهلوان، مثل السادات، أن ينقله بين يوم وليلة (حرفياً) من اليسار إلى اليمين. وها هو السيسي يجمع كلّ ما لا يُجمع (دونت ميكس، على رأي مرسي) في بوتقة انفجارٍ واحدة: الانحياز السافر إلى بارونات العهد السابق، تجريد الفقراء من مكتسباتٍ متهالكة، التفريط بالأرض (الجزر للسعودية، من أجل حفنة دولارات)، "الحنيِّة" المثيرة للسخرية على إسرائيل، القهر السياسي (ليس لخصومه الإخوان، بل لمن جاءوا به بمليونياتٍ ضاجَّة من وزارة الدفاع إلى الاتحادية)، فعل ما لم يفعله السادات، ولا حسني مبارك من قبله، حيال الصحافة وحريات التعبير، وعربدة الأمن بلا رادع.