دول البلطيق... قنبلة موقوتة في الصراع الروسي ـ الأطلسي

19 يونيو 2016
تدريبات للأطلسي في زاغان ـ بولندا (شون غالوب/Getty)
+ الخط -
منذ عام 2008، تاريخ بدء استخدام روسيا قوتها العسكرية المباشرة خارج أرضها، للمرة الأولى بشكلها الحديث، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، في جورجيا أولاً ثم في شبه جزيرة القرم الأوكرانية ثانياً، تصدّرت بولندا قائمة الدول التي تُشكّل "خاصرة روسيا الضعيفة" في الشرق الأوروبي. لكن بولندا لم تبقَ وحيدة في بنك الأهداف الروسية، فأخيراً باتت دول البلطيق الثلاث: لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، أولوية مطلقة، تطغى على الأولوية البولندية روسياً.

على خريطة بحر البلطيق في الشمال، تبدو تلك الدول وكأنها مطوّقة روسياً من مختلف الجهات، ولا مجال أمامها سوى البحر. لا إمكانات فعلية للدول الثلاث، فمساحاتها الجغرافية وديمغرافيتها، صغيرة (إستونيا: 45.339 كيلومتراً مربعاً و1.3 مليون نسمة. لاتفيا: 64.589 كيلومتراً مربعاً و1.9 مليون نسمة. ليتوانيا: 65.300 كيلومتراً مربّعاً و2.9 مليون نسمة). وبمساحة إجمالية تبلغ أكثر من 175 ألف كيلومتر مربّع، وعدد سكان يناهز 6.2 ملايين نسمة، تبدو الدول الثلاث وكأنها لقمة سائغة لأي حراك روسي. عدا عن ذلك، فإن للإثنية الروسية وجوداً مهماً في لاتفيا (27 في المائة)، وإستونيا (25 في المائة)، بينما لا تتجاوز نسبتهم الـ7 في المائة في ليتوانيا. يُعدّ روسيو تلك المنطقة عنصر جذب لموسكو، والتي تسعى، وفقاً لأدبيات قومية تعمل على بثها في مختلف الدول التي كانت خاضعة للنفوذ السوفييتي سابقاً، وتنصّ على حماية "كل فرد من العالم الروسي"، ولو عن طريق استيلاد الإشكالات تمهيداً لتدخّل ما، عسكري أو سياسي. مشروع تساهم فيه بقوة الكنائس الأرثوذكسية في بيلاروسيا، عبر تنظيمها معسكرات تدريب للشباب من أصول روسية.




على الرغم من تركيز روسيا أساساً على أوكرانيا، واستطراداً على البحر الأسود، إلا أنها عملت على زيادة حشدها العسكري في كالينينغراد، المنطقة الروسية المطلّة على البلطيق، والواقعة بين ليتوانيا وبولندا. وتسعى موسكو إلى البقاء على تماس مع حلف شمال الأطلسي، والذي يحاول استغلال تركيز روسيا على شرقي المتوسط، مقيماً مناورات هي الأضخم له في البلطيق في شهر مايو/ أيار الماضي، ثم مناورات "أناكوندا" في بولندا، في الشهر الحالي. في حسابات الأطلسي، فإن القيام بمناورات في منطقة، متصلة بشكل وثيق اقتصادياً وجغرافياً، بدولتي السويد وألمانيا، من شأنها أن "تُفزع" روسيا، خصوصاً أنه في عملياتها العسكرية في جورجيا وأوكرانيا (شبه جزيرة القرم)، لم تجد روسيا دولاً مماثلة لألمانيا والسويد في الجوار، وهو ما سمح بتماديها في ضرباتها العسكرية جورجياً وأوكرانياً.

أهمية منطقة البلطيق ودولها أطلسياً، لا تكمن فقط في الوقوف بوجه روسيا، بل تتضمن أيضاً إزالة أي فكرة في إنشاء "جيش أوروبي"، تمّ التطرّق إليها في الأسابيع القليلة الماضية، في ظلّ ممانعة بريطانية واضحة في بعض دوائر لندن العسكرية. لذلك، عمدت قيادة الحلف إلى تكثيف وجودها العسكري، وتوسيع معايير التدريبات العسكرية، والتأكيد على أنها "قادرة على مواجهة روسيا في أي معركة عسكرية". أما الروس، فيكفي أن مدينة رئيسهم فلاديمير بوتين، سان بطرسبرغ، تطلّ على بحر البلطيق. بالتالي، فإن أي معركة في البلطيق ستتخذ طابعاً شخصياً لبوتين، لأنها تحصل في عقر داره فعلياً، وهو المتيّم بالرموز وكل ما يتعلق بالعوامل الذاتية الشخصية. وعدا عن رمزية المدينة وبوتين، فإن أهميتها السياسية والاجتماعية توازي أهمية موسكو بالنسبة للروس، فقد كان اسم المدينة لينينغراد بين عامي 1924 و1991، تيمّناً بأبرز زعيم سوفييتي فلاديمير لينين، ومنها انطلقت شرارات الثورة الروسية في القرن العشرين. كما أن شركة "غازبروم"، أبرز شركة غاز روسية، تعتبر سان بطرسبرغ من أبرز المدن ـ المرافئ لتصدير الغاز إلى الشمال الأوروبي ومنه إلى الوسط الألماني.

وللدلالة على "علامات الأزمنة" الروسية المرتبطة بدول البلطيق، يبرز سعي موسكو إلى تكريس شبكة أمان في دول سوفييتية سابقة، من القوقاز إلى وسط آسيا. وفي هذا الصدد، أعلن الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، نيكولاي بورديوجا، أن "الحلف الدفاعي الذي يضمّ روسيا وستاً من الجمهوريات السوفييتية السابقة، يعمل على نشر نظام مشترك للدفاع الجوي يغطي أراضي الحلف كاملة". وأفاد في مؤتمر صحافي عقده في العاصمة الأرمينية يريفان، في 8 يونيو/ حزيران الحالي، أن "دمج أنظمة الدفاع الجوي في المنطقة، يُمهّد لنشر نظام دفاع جوي في منطقة منظمة المعاهدة الأمنية المشتركة بأكملها". وتشمل هذه المنطقة دول: روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان.

في هذا السياق، تعمل روسيا على تمتين ساحتها في الجهة الآسيوية، للتفرّغ لجهة البلطيق، خصوصاً أن الوضع في الشرق من بحر المتوسط إلى مداخل الوسط الآسيوي، يمرّ في حالة من الجمود، لأن الاتفاق الأميركي ـ الروسي في سورية، وضمناً الاتفاق الأميركي ـ الإيراني، والاتفاق الروسي ـ الإسرائيلي، لا يسمح بأي حراك عسكري، متهور حتى، خارج إطار السيطرة لأي طرف في تلك المنطقة، مع الإبقاء على دائرة الصراعات العسكرية في العراق وسورية واليمن على حالها. كما أن غياب تركيا عن مثل هذه الاتفاقيات لا يعني احتمال كسرها من جانب أنقرة.

وسط هذه الأحداث المتلاحقة، سعت أوكرانيا إلى استغلال الوضع المتطوّر في البلطيق، عبر طلبها من روسيا استئناف إمدادها بالغاز لمدة تسعة أشهر، وفقاً لما أعلن الرئيس التنفيذي لـ"غازبروم" أليكسي ميلر. وقال ميلر في هذا الصدد إن "غازبروم تلقّت خطاباً رسمياً من رئيس شركة نفتغاز الأوكرانية للطاقة، يطلب فيها استئناف شحنات الغاز الروسي". مع العلم أن كييف أوقفت شراء الغاز من موسكو، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، من دون أن تتمكن من تأمين البديل، وتسعى هنا إلى استغلال حاجة روسيا لبيع الغاز، في موسم الصيف، والذي يقلّ الطلب على الغاز فيه. بالنسبة إلى روسيا، إذا كانت جورجيا وأوكرانيا من "أهل البيت"، فإن دول البلطيق هي "أساس البيت" شمالاً، وعليه فإن أمام البلطيق ودوله مرحلة صعبة مستقبلياً، وقد تطغى أخباره على ما عداها من أخبار الشرق الأوروبي.