29 أكتوبر 2024
دور حزب الاتحاد الديمقراطي ومستقبله .. مرة أخرى
عبد الباسط سيدا
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
نشرت صحيفة العربي الجديد، في 2 مايو/ أيار 2019، مقالاً للإعلامي والكاتب السوري خورشيد دلي بعنوان "رداً على سيدا.. عن حزب الاتحاد الديمقراطي"، وافق الكاتب بصورة عامة، في القسم الأول من مقاله، على ما ذهبتُ إليه في مقال كانت الصحيفة نفسها قد نشرته لصاحب هذه السطور، في 30 إبريل/ نيسان 2019 بعنوان: "حزب الاتحاد الديمقراطي.. دور إشكالي ومستقبل ضبابي". وهو القسم الذي تناولت فيه مسألة توصيف نشأة الحزب المعني، والمتغيرات التي طرأت على علاقاته وتحالفاته، مع العلم أن المقال قد اقتصر على العموميات من دون التفصيلات. ولكن الملاحظ أن الكاتب قد توقف عند دعوتي إلى ضرورة فك الارتباط بين هذا الحزب وحزب العمال الكردستاني، من أجل الوصول إلى توافق كردي - كردي سوري، يكون خطوةً لا بد منها على طريق التفاهم الكردي - العربي السوري، ومن ثم السوري - السوري العام. وكان وصفه موقفي من هذا الموضوع بأنه يعاني من عدم الدقة، ويفتقر إلى الرؤية الشاملة. ثم أجرى مقارنة بين تبعية حزب الاتحاد الديمقراطي لحزب العمال الكردستاني وتبعية الأحزاب الكردية للأحزاب الكردستانية العراقية، سيما للحزب الديمقراطي الكردستاني- العراقي، والاتحاد الوطني الكردستاني بهذه الصيغة أو تلك.
واللافت أن الكاتب، على الرغم من اطلاعه العميق على تفاصيل الوضع الكردي، تجاهل في مقارنته نقاطاً عدة، كان من المفروض أن يتوقف عندها، طالما أنه اتخذ من المقارنة المعنية
محوراً رئيساً في ردّه علي، وليس على الرأي الذي ذهبت إليه في مقالي، وهذا ما يستشف من عنوانه "ردا على سيدا.."، وهذه خاصية شرقية لم نتحرّر منها بعد بكل أسف.
لم تكن المقارنة المعنية جزءاً من موضوعي المعني هنا. ولكن سبق وأن تناولت الموضوع في مناسبات وأحاديث شتى، وهو موضوع يستحق التناول، ولكن ضمن سياقه الطبيعي، وبنفَس بحثي هادئ، يمكّن من تشخيص الخلل، ويمهّد الطريق أمام الحلول الممكنة. وذكّرتني كثيرا المقارنة التي لجأ إليها دلي بالحجة التي تُسمع عادة من بعض القوميين العرب السوريين في ردة فعلهم على دعوات المطالبين بضرورة إيجاد حل عادل للقضية الكردية في سورية، إذ يقولون: إذا فتحنا هذا الباب، سنجد التركمان والسريان والأرمن والشركس... يطالبون بحقوقهم، وبحل عادل لقضاياهم، وبالتالي تضيع سورية، نحن شعبٌ واحد، وعلينا أن نبتعد عن هذا الأمور، وكلنا قد تعرضنا للظلم.
ومع إقرارنا بحقوق الجميع، ودعوتنا إلى ضرورة احترام خصوصيات الجميع، سواء الإثنية القومية أم الدينية والمذهبية، في إطار المشروع الوطني السوري العام، إلا أن أولئك، في عملية الخلط بين جملة القضايا الخاصة بالمكونات السورية، يرمون، في المقام الأول، إلى إلغاء مشروعية المطالبة بالحقوق وإلغاء التمييز، سيما كردياً. في حين أن الظلم المركب الذي تعرّض له الكرد عقودا من حكم حزب البعث، وحتى قبله، وفق سياساتٍ رسميةٍ مقصودة، استهدفت الكرد في المقام الأول، بات واضحاً جلياً لأي مهتم بالشأن العام، في الداخل السوري، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. ولكن هذه مسألة أخرى، تخرج عن نطاق موضوعنا هنا، وإنما أوردتها من باب المقارنة، وفي سياق تداعي الأفكار، ليس إلا.
ما ذهب إليه دلي بخصوص المقارنة بين علاقة حزب الاتحاد وحزب العمال من جهة، وطبيعة العلاقة بين الأحزاب الكردية السورية والحزب الديمقراطي الكردستاني، أمر لا يجانب الحقيقة تماماً، ولكنه لا يفصح عنها كاملة. وكنا نأمل ألا يكون الأمر كذلك من موقع شخص مطلع عارف. ولإلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع، لا بد من العودة إلى البدايات قليلاً، فقد تطلع كرد سورية، منذ الأيام الأولى لتقسيم المنطقة، باستمرار، نحو وراء الحدود من الشمال والشرق. وهذا أمر له أسبابه الموضوعية التي تشمل الجذور التاريخية لقضيتهم، ووقائع الجغرافيا، وانعكاسات العقلية الإقصائية الاستئصالية التي تميّزت بها سياسات حكّام سورية وممارساتهم، هؤلاء الذين أعلنوا عن التزامهم بالأيديولوجيا القومية منذ الخمسينيات، فالكرد السوريون، شأن العرب السوريين، وجدوا أنفسهم، وقد تم تقسيم اعتباطي لبلادهم، وبقيت مدنهم الأساسية في الجانب التركي، في حين أن مناطق الريف هي التي ضمتها سورية الحديثة في
إطار حدود الانتداب الفرنسي التي رسمت بعد توافقات واتفاقيات مع الجانبين، البريطاني والتركي، وهي التوافقات التي شكلت الحدود السورية الحالية. ومثلما لم يعترف العرب السوريون بواقع التقسيم، ووجدوا أن الحل يتمثل في دولة عربية واحدة مستقلة، تطلّع الكرد السوريون إلى الحل الكردستاني، وتحمّسوا، في بداية الأمر، لمشاريع النخب الكردية التي كانت قد لجأت إلى المناطق الكردية السورية في عهد الانتداب الفرنسي، كما سكنت في مدينتي حلب ودمشق خصوصا. وذلك بعد أن ضاقت بها السبل في المناطق الكردية التي ظلت ضمن إطار الدولة التركية الحديثة.
ويشار في هذا المجال، على سبيل المثال، إلى مشروع خويبون 1927. ولكن مع تراجع حدّة النضال الكردي في الشمال، وتصاعده في الشرق في عهد الراحل ملا مصطفى البارزاني، والذي يعد الأب الروحي للقضية الكردية المعاصرة، توجهت أنظار الكرد، منذ ستينيات القرن المنصرم، نحو كردستان العراق، وكلهم أمل بأنهم سيستفيدون من إنجازات الحركة الكردية هناك، في رد عفوي، وبمنطق فطري سليم، على سياسات الحكمين البعثيين في سورية والعراق وممارساتهما، ودخول القوات السورية بقيادة فهد الشاعر عام 1963 إلى كردستان العراق، بغرض القضاء على ثورة الكرد هناك.
ولكن الملاحظ أن المطالب الكردية السورية كانت تتمحور، في ذلك الحين، حول ضرورة رفع الظلم، والاعتراف بالحقوق ضمن الإطار الوطني السوري. ولم تكن هناك صيغة من صيغ الالتحام العضوي مع المشروع الكردي في كردستان العراق. وكانت العلاقة، بصورة عامة، أقرب إلى شكل علاقة الأحزاب والتيارات القومية العربية مع المشروع الناصري، وإن بصيغة مغايرة إلى حدٍ ما، مع علاقة الأحزاب الشيوعية مع الاتحاد السوفييتي، هذا مع الإقرار
بمحدودية التجربة الكردية، وتشابك الظروف التي كانت تحيط بها من جميع النواحي.
ومع انهيار الثورة الكردية في كردستان العراق عام 1975، نتيجة اتفاقية الجزائر بين صدّام حسين وشاه إيران، وبوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين، حصل فراغ كبير على صعيد المرجعية الكردية في بعدها الكردستاني العام، وكان تحول الفصائل الكردية اللافت نحو الالتزام بالماركسية اللينينية، أو الاستفادة منها والاسترشاد بها، ليس في سورية وحدها، بل في تركيا والعراق وإيران، وكان ذلك بالتناغم مع تصاعد موجة اليسار عربياً وتركياً وفارسياً في المنطقة كلها، وبحثاً عن نظرية عقائدية تعبوية. وفي هذه الأجواء، دخل حزب العمال الكردستاني إلى الساحة السورية في عام 1979، وكان الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة مام جلال (الطالباني) قد دخلها عام 1975، وبعد ذلك دخل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يترأسه مسعود البارزاني بعد وفاة المرحوم والده عام 1979. وبدأت حالة من الاستقطاب بين الأحزاب الكردية، وكانت العلاقة علاقة تحالف، وفق التوصيف الشائع، بين الحزبين، الديمقراطي الكردي والديمقراطي الكردستاني في العراق، وعلاقة تحالف بين الحزب الديمقراطي التقدمي والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الراحل مام جلال.
وأقام حزب العمال الكردستاني العلاقة مع بعض الأحزاب الكردية الأخرى، ولكنه، في الوقت ذاته، كان يعمل على إنشاء تنظيماته الخاصة بين الكرد السوريين وحتى اللبنانيين، وذلك بتفاهم وتنسيق كاملين مع الأجهزة الأمنية السورية التي كان قد تمكّن من التفاهم معها منذ بداية الثمانينيات. واستطاع بفعل ذلك تجنيد آلاف من الكرد السوريين ضمن صفوفه، مستفيدا، في هذا المجال، من تجربة الفصائل الفلسطينية في التعامل مع العواطف والميول القومية المشوبة بمسحةٍ يساريةٍ ماركسيةٍ ضمن الأوساط العربية، سيما في لبنان وسورية والأردن. والمعروف في هذا المجال أنه قد قُتل من الكرد السوريين آلاف ممن كانوا قد التحقوا بالحزب قبل إخراج زعيمه، عبدالله أوجلان من سورية، وفي ظروف تثير علامات استفهام كثيرة، وذلك بناء على البيانات التي أعلن عنها الحزب نفسه. في حين أن الحزبين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لم يجندا الكرد السوريين، كما أنهما لم يمارسا أسلوب فرض الإتاوات وجمع التبرعات على الكرد السوريين، بينما كان حزب العمال يلجأ إلى ذلك، ويمارسه
باستمرار، حتى أنه كان يلزم الفقراء بتخصيص جزءٍ من مردود عملهم في عمليات الحصاد القاسية لصالح الحزب، وهناك تفاصيل لا تعد ولا تحصى، ووقائع مؤلمة يعرفها ناسنا بدقة، ويتذكرونها من حين إلى آخر بمرارة.
وبعد إخراج أوجلان من سورية بضغط تركي، وتوقيع نظام حافظ الأسد على اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998، تم تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي، ليكون الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على غرار التشكيلات القُطرية التي كان يؤسسها حزب البعث تحت مظلة القيادة القومية، مع فرق أساسي، أن الارتباط العضوي التنظيمي والعسكري والأمني والمالي هو وثيق إلى حد التماهي، بل وبكلام أدق، يعتبر الأول مجرد منظمة فرعية خاضعة بصورة مطلقة للتنظيم الأساسي.
ومع انطلاقة الثورة السورية، في مارس/ آذار 2011، تفاعل الكرد السوريون معها منذ اليوم الأول، نتيجة تطورات عميقة، كانت قد طرأت على الوعي الكردي السوري العام. وبناء على التجارب الكثيرة، والمراجعات التي كانت تتم، سواء ضمن الأحزاب، أم من المثقفين والشخصيات المستقلة ضمن منظمات المجتمع المدني وخارجها. وبفعل ذلك، توصلت الغالبية الغالبة من الكرد السوريين إلى قناعةٍ بأن حل قضيتهم يتم ضمن الإطار الوطني السوري، ولن يكون ذلك إلا بالتفاهم والتفاعل مع القوى المؤمنة بالمشروع الوطني السوري. ولكن مشكلة السوريين كانت تتمثل في أن القيادات الحزبية، العربية منها والكردية، لم تكن تمتلك من المؤهلات التي تمنحها الثقة بالنفس، وتعمل على طرح مطالبها الوطنية بجرأة وموضوعية، ولم يكن هذا الأمر، بطبيعة الحال، بعيداً عن سياسات (وتكتيكات) النظام الأمني الذي كان قد فرضه حافظ الأسد على السوريين، فقد كان مسموحاً لأحزابهم ومفكريهم ومثقفيهم أن يتفاعلوا مع القضيتين، الفلسطينية والعراقية، وحتى مع القضية الكردية خارج سورية، سواء في تركيا أم في العراق، ولكن لم تتحول تلك الجهود إلى نوع من المشروع الوطني السوري، المطالب بتغييرات وإصلاحات على المستوى الداخلي، فذلك كان من المحرّمات التي لا يجوز مجرّد التفكير فيها.
ولكن مع انطلاقة الثورة السورية، وتفاعل الكرد معها، وجد النظام ضرورة العودة إلى دفاتره القديمة، واستخدام حزب العمال الكردستاني عبر واجهته، حزب الاتحاد الديمقراطي (ب.ي.د)، من أجل ضبط الأوضاع في المناطق الكردية، والحيلولة بينها وبين التفاعل الكامل مع الثورة، والانخراط فيها بصورة فاعلة. وما يؤخذ هنا على الأحزاب الكردية السورية تقاعسها عن مهمة مواجهة التحديات، واتخاذ القرارات المصيرية التي كانت تستوجبها المرحلة، وإنما اكتفت بأساليها القديمة، ولجات إلى عقليتها الاتكالية، وأرهقت الأخوة في كردستان العراق بأعباء المسؤوليات التي كان من المفروض أن تتصدّى لها بنفسها.
مع ذلك، نرى أن جعل طبيعة العلاقة بين حزبي الاتحاد الديمقراطي والعمال، على المستوى نفسه من طبيعة العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والأحـزب الكردية الأخرى في سورية والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، أمرا يقفز فوق المعطيات الموضوعية التي نعتقد أن الأخ خورشيد دلي يعرفها جيداً، فحزب الاتحاد الديمقراطي يتحكم اليوم بالمناطق الكردية السورية، عبر شبكة التشكيلات الأمنية الخاضعة مباشرة لأوامر حزب العمال الكردستاني. فخلف كل واجهةٍ سوريةٍ هناك كادر غير سوري في أغلب الأحيان، يتلقى الأوامر مباشرة من قيادات جبال قنديل.
كما أن هذا الحزب يفرض الضرائب، ويتحكّم بالموارد، ويطبق التجنيد الإجباري، ويفرض نظام تعليمه الخاص به، ويغلق مراكز الأحزاب، ويغيّب الناس بمختلف الأشكال، ويلزم منظمات المجتمع المدني بضرورة الحصول على موافقات إدارته التي أعلنها من جانب واحد، ومن دون أية مشروعية، وهي إدارة لا تتمتع بأي اعتراف بها من أية جهة. ومع ذلك، يطالب خورشيد دلي بضرورة الإعتراف بها كإدارة أمر واقع، مع علمنا وعلمه باستمرارية التنسيق بين الإدارة المعنية والأجهزة الأمنية التابعة للنظام في القامشلي والحسكة وبقية المناطق، وذلك كله على الرغم مما نسمع به من تباينات ومواقف متعارضة، يطلقها هذا الطرف أو ذاك للتعمية والاستهلاك المحلي.
كما أن عمليات اعتقال المعارضين لتوجهات الإدارة المعنية، وإبعادهم، وفرض البرامج
الدراسية الأيدولوجية غير المبنية على أسس علمية تربوية، من الأمور التي لم يقم بها الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، وهو يتعامل مع الأحزاب الكردية الأخرى وفق قواعد واضحة للجميع، فهناك مؤسسات معروفة، وقيادات معروفة، هي التي تقيم العلاقة مع الأحزاب المعنية. هذا في حين أن أسماء القيادات الفعلية في قنديل، وأدوارها، وآلية اتخاذ القرارات فيما بينها، والعوامل المتحكمة، والجهات الإقليمية والدولية المؤثرة، ذلك كله يدخل في باب المجهول الشبحي غير المعروف.
أما موضوع بيشمركة روز فلا يخرج عن نطاق المتغيرات الحادّة التي شهدتها الساحة السورية على صعيد العمل العسكري، ودخول المليشيات والقوى المسلحة من مختلف الجنسيات والاتجاهات والانتماءات، وتحول الجيش السوري إلى أداةٍ بيد النظام لقتل السوريين، فتمكّنت هذه القوات من استيعاب الكرد السوريين الذين تركوا الجيش، أو رفضوا الانضمام إليه في ظل الظروف الحالية. وفي جميع الأحوال، هؤلاء سوريون، نعرف أماكن إقاماتهم الأصلية، كما نعرف أسرهم وذويهم وبيئاتهم، ولا تحرّكهم مشاريع أيديولوجية متطرّفة، كما أن قياداتهم معروفة. وهؤلاء لن يدخلوا، في جميع الأحوال، إلى المناطق الكردية من دون اتفاق سوري وطني عام، ولن يكونوا عنصر تهديد موجهٍ ضد أي طرف سوري، بل ستنحصر مهمهتم في حماية الأمن والاستقرار في المناطق الكردية.
ونعود لنؤكد مجدداً أهمية فك الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال بالنسبة إلى الحالة الكردية، فهذه الخطوة ستؤدي إلى انفراج كبير على المستوى السوري الداخلي. وستخفف كثيراً من التوتر الإقليمي، سيما مع تركيا. وسيكون هذا الأمر موضع ارتياح لدى كرد العراق، خصوصا من الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي أبدى رئيسه مسعود البارزاني باستمرار حرصه اللافت على صيانة السلام الكردي - الكردي، وعمل دائماً من أجل الوصول إلى التفاهم بين الأطراف الكردية السورية، ولن يكون عائقاً أمام تحمّل القيادات الكردية السورية مسؤولياتها، والتصدّي لواجباتها؛ بل على العكس، سيشجعها على ذلك، لأنه سيتحرّر بذلك من أعباء كثيرة ترهقه، إلى جانب أعبائه الكثيرة على المستويين، الكردستاني والعراقي العام، وعلى المستوى الإقليمي بصورة أشمل.
لم تكن المقارنة المعنية جزءاً من موضوعي المعني هنا. ولكن سبق وأن تناولت الموضوع في مناسبات وأحاديث شتى، وهو موضوع يستحق التناول، ولكن ضمن سياقه الطبيعي، وبنفَس بحثي هادئ، يمكّن من تشخيص الخلل، ويمهّد الطريق أمام الحلول الممكنة. وذكّرتني كثيرا المقارنة التي لجأ إليها دلي بالحجة التي تُسمع عادة من بعض القوميين العرب السوريين في ردة فعلهم على دعوات المطالبين بضرورة إيجاد حل عادل للقضية الكردية في سورية، إذ يقولون: إذا فتحنا هذا الباب، سنجد التركمان والسريان والأرمن والشركس... يطالبون بحقوقهم، وبحل عادل لقضاياهم، وبالتالي تضيع سورية، نحن شعبٌ واحد، وعلينا أن نبتعد عن هذا الأمور، وكلنا قد تعرضنا للظلم.
ومع إقرارنا بحقوق الجميع، ودعوتنا إلى ضرورة احترام خصوصيات الجميع، سواء الإثنية القومية أم الدينية والمذهبية، في إطار المشروع الوطني السوري العام، إلا أن أولئك، في عملية الخلط بين جملة القضايا الخاصة بالمكونات السورية، يرمون، في المقام الأول، إلى إلغاء مشروعية المطالبة بالحقوق وإلغاء التمييز، سيما كردياً. في حين أن الظلم المركب الذي تعرّض له الكرد عقودا من حكم حزب البعث، وحتى قبله، وفق سياساتٍ رسميةٍ مقصودة، استهدفت الكرد في المقام الأول، بات واضحاً جلياً لأي مهتم بالشأن العام، في الداخل السوري، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. ولكن هذه مسألة أخرى، تخرج عن نطاق موضوعنا هنا، وإنما أوردتها من باب المقارنة، وفي سياق تداعي الأفكار، ليس إلا.
ما ذهب إليه دلي بخصوص المقارنة بين علاقة حزب الاتحاد وحزب العمال من جهة، وطبيعة العلاقة بين الأحزاب الكردية السورية والحزب الديمقراطي الكردستاني، أمر لا يجانب الحقيقة تماماً، ولكنه لا يفصح عنها كاملة. وكنا نأمل ألا يكون الأمر كذلك من موقع شخص مطلع عارف. ولإلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع، لا بد من العودة إلى البدايات قليلاً، فقد تطلع كرد سورية، منذ الأيام الأولى لتقسيم المنطقة، باستمرار، نحو وراء الحدود من الشمال والشرق. وهذا أمر له أسبابه الموضوعية التي تشمل الجذور التاريخية لقضيتهم، ووقائع الجغرافيا، وانعكاسات العقلية الإقصائية الاستئصالية التي تميّزت بها سياسات حكّام سورية وممارساتهم، هؤلاء الذين أعلنوا عن التزامهم بالأيديولوجيا القومية منذ الخمسينيات، فالكرد السوريون، شأن العرب السوريين، وجدوا أنفسهم، وقد تم تقسيم اعتباطي لبلادهم، وبقيت مدنهم الأساسية في الجانب التركي، في حين أن مناطق الريف هي التي ضمتها سورية الحديثة في
ويشار في هذا المجال، على سبيل المثال، إلى مشروع خويبون 1927. ولكن مع تراجع حدّة النضال الكردي في الشمال، وتصاعده في الشرق في عهد الراحل ملا مصطفى البارزاني، والذي يعد الأب الروحي للقضية الكردية المعاصرة، توجهت أنظار الكرد، منذ ستينيات القرن المنصرم، نحو كردستان العراق، وكلهم أمل بأنهم سيستفيدون من إنجازات الحركة الكردية هناك، في رد عفوي، وبمنطق فطري سليم، على سياسات الحكمين البعثيين في سورية والعراق وممارساتهما، ودخول القوات السورية بقيادة فهد الشاعر عام 1963 إلى كردستان العراق، بغرض القضاء على ثورة الكرد هناك.
ولكن الملاحظ أن المطالب الكردية السورية كانت تتمحور، في ذلك الحين، حول ضرورة رفع الظلم، والاعتراف بالحقوق ضمن الإطار الوطني السوري. ولم تكن هناك صيغة من صيغ الالتحام العضوي مع المشروع الكردي في كردستان العراق. وكانت العلاقة، بصورة عامة، أقرب إلى شكل علاقة الأحزاب والتيارات القومية العربية مع المشروع الناصري، وإن بصيغة مغايرة إلى حدٍ ما، مع علاقة الأحزاب الشيوعية مع الاتحاد السوفييتي، هذا مع الإقرار
ومع انهيار الثورة الكردية في كردستان العراق عام 1975، نتيجة اتفاقية الجزائر بين صدّام حسين وشاه إيران، وبوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين، حصل فراغ كبير على صعيد المرجعية الكردية في بعدها الكردستاني العام، وكان تحول الفصائل الكردية اللافت نحو الالتزام بالماركسية اللينينية، أو الاستفادة منها والاسترشاد بها، ليس في سورية وحدها، بل في تركيا والعراق وإيران، وكان ذلك بالتناغم مع تصاعد موجة اليسار عربياً وتركياً وفارسياً في المنطقة كلها، وبحثاً عن نظرية عقائدية تعبوية. وفي هذه الأجواء، دخل حزب العمال الكردستاني إلى الساحة السورية في عام 1979، وكان الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة مام جلال (الطالباني) قد دخلها عام 1975، وبعد ذلك دخل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يترأسه مسعود البارزاني بعد وفاة المرحوم والده عام 1979. وبدأت حالة من الاستقطاب بين الأحزاب الكردية، وكانت العلاقة علاقة تحالف، وفق التوصيف الشائع، بين الحزبين، الديمقراطي الكردي والديمقراطي الكردستاني في العراق، وعلاقة تحالف بين الحزب الديمقراطي التقدمي والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الراحل مام جلال.
وأقام حزب العمال الكردستاني العلاقة مع بعض الأحزاب الكردية الأخرى، ولكنه، في الوقت ذاته، كان يعمل على إنشاء تنظيماته الخاصة بين الكرد السوريين وحتى اللبنانيين، وذلك بتفاهم وتنسيق كاملين مع الأجهزة الأمنية السورية التي كان قد تمكّن من التفاهم معها منذ بداية الثمانينيات. واستطاع بفعل ذلك تجنيد آلاف من الكرد السوريين ضمن صفوفه، مستفيدا، في هذا المجال، من تجربة الفصائل الفلسطينية في التعامل مع العواطف والميول القومية المشوبة بمسحةٍ يساريةٍ ماركسيةٍ ضمن الأوساط العربية، سيما في لبنان وسورية والأردن. والمعروف في هذا المجال أنه قد قُتل من الكرد السوريين آلاف ممن كانوا قد التحقوا بالحزب قبل إخراج زعيمه، عبدالله أوجلان من سورية، وفي ظروف تثير علامات استفهام كثيرة، وذلك بناء على البيانات التي أعلن عنها الحزب نفسه. في حين أن الحزبين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لم يجندا الكرد السوريين، كما أنهما لم يمارسا أسلوب فرض الإتاوات وجمع التبرعات على الكرد السوريين، بينما كان حزب العمال يلجأ إلى ذلك، ويمارسه
وبعد إخراج أوجلان من سورية بضغط تركي، وتوقيع نظام حافظ الأسد على اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998، تم تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي، ليكون الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على غرار التشكيلات القُطرية التي كان يؤسسها حزب البعث تحت مظلة القيادة القومية، مع فرق أساسي، أن الارتباط العضوي التنظيمي والعسكري والأمني والمالي هو وثيق إلى حد التماهي، بل وبكلام أدق، يعتبر الأول مجرد منظمة فرعية خاضعة بصورة مطلقة للتنظيم الأساسي.
ومع انطلاقة الثورة السورية، في مارس/ آذار 2011، تفاعل الكرد السوريون معها منذ اليوم الأول، نتيجة تطورات عميقة، كانت قد طرأت على الوعي الكردي السوري العام. وبناء على التجارب الكثيرة، والمراجعات التي كانت تتم، سواء ضمن الأحزاب، أم من المثقفين والشخصيات المستقلة ضمن منظمات المجتمع المدني وخارجها. وبفعل ذلك، توصلت الغالبية الغالبة من الكرد السوريين إلى قناعةٍ بأن حل قضيتهم يتم ضمن الإطار الوطني السوري، ولن يكون ذلك إلا بالتفاهم والتفاعل مع القوى المؤمنة بالمشروع الوطني السوري. ولكن مشكلة السوريين كانت تتمثل في أن القيادات الحزبية، العربية منها والكردية، لم تكن تمتلك من المؤهلات التي تمنحها الثقة بالنفس، وتعمل على طرح مطالبها الوطنية بجرأة وموضوعية، ولم يكن هذا الأمر، بطبيعة الحال، بعيداً عن سياسات (وتكتيكات) النظام الأمني الذي كان قد فرضه حافظ الأسد على السوريين، فقد كان مسموحاً لأحزابهم ومفكريهم ومثقفيهم أن يتفاعلوا مع القضيتين، الفلسطينية والعراقية، وحتى مع القضية الكردية خارج سورية، سواء في تركيا أم في العراق، ولكن لم تتحول تلك الجهود إلى نوع من المشروع الوطني السوري، المطالب بتغييرات وإصلاحات على المستوى الداخلي، فذلك كان من المحرّمات التي لا يجوز مجرّد التفكير فيها.
ولكن مع انطلاقة الثورة السورية، وتفاعل الكرد معها، وجد النظام ضرورة العودة إلى دفاتره القديمة، واستخدام حزب العمال الكردستاني عبر واجهته، حزب الاتحاد الديمقراطي (ب.ي.د)، من أجل ضبط الأوضاع في المناطق الكردية، والحيلولة بينها وبين التفاعل الكامل مع الثورة، والانخراط فيها بصورة فاعلة. وما يؤخذ هنا على الأحزاب الكردية السورية تقاعسها عن مهمة مواجهة التحديات، واتخاذ القرارات المصيرية التي كانت تستوجبها المرحلة، وإنما اكتفت بأساليها القديمة، ولجات إلى عقليتها الاتكالية، وأرهقت الأخوة في كردستان العراق بأعباء المسؤوليات التي كان من المفروض أن تتصدّى لها بنفسها.
مع ذلك، نرى أن جعل طبيعة العلاقة بين حزبي الاتحاد الديمقراطي والعمال، على المستوى نفسه من طبيعة العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والأحـزب الكردية الأخرى في سورية والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، أمرا يقفز فوق المعطيات الموضوعية التي نعتقد أن الأخ خورشيد دلي يعرفها جيداً، فحزب الاتحاد الديمقراطي يتحكم اليوم بالمناطق الكردية السورية، عبر شبكة التشكيلات الأمنية الخاضعة مباشرة لأوامر حزب العمال الكردستاني. فخلف كل واجهةٍ سوريةٍ هناك كادر غير سوري في أغلب الأحيان، يتلقى الأوامر مباشرة من قيادات جبال قنديل.
كما أن هذا الحزب يفرض الضرائب، ويتحكّم بالموارد، ويطبق التجنيد الإجباري، ويفرض نظام تعليمه الخاص به، ويغلق مراكز الأحزاب، ويغيّب الناس بمختلف الأشكال، ويلزم منظمات المجتمع المدني بضرورة الحصول على موافقات إدارته التي أعلنها من جانب واحد، ومن دون أية مشروعية، وهي إدارة لا تتمتع بأي اعتراف بها من أية جهة. ومع ذلك، يطالب خورشيد دلي بضرورة الإعتراف بها كإدارة أمر واقع، مع علمنا وعلمه باستمرارية التنسيق بين الإدارة المعنية والأجهزة الأمنية التابعة للنظام في القامشلي والحسكة وبقية المناطق، وذلك كله على الرغم مما نسمع به من تباينات ومواقف متعارضة، يطلقها هذا الطرف أو ذاك للتعمية والاستهلاك المحلي.
كما أن عمليات اعتقال المعارضين لتوجهات الإدارة المعنية، وإبعادهم، وفرض البرامج
أما موضوع بيشمركة روز فلا يخرج عن نطاق المتغيرات الحادّة التي شهدتها الساحة السورية على صعيد العمل العسكري، ودخول المليشيات والقوى المسلحة من مختلف الجنسيات والاتجاهات والانتماءات، وتحول الجيش السوري إلى أداةٍ بيد النظام لقتل السوريين، فتمكّنت هذه القوات من استيعاب الكرد السوريين الذين تركوا الجيش، أو رفضوا الانضمام إليه في ظل الظروف الحالية. وفي جميع الأحوال، هؤلاء سوريون، نعرف أماكن إقاماتهم الأصلية، كما نعرف أسرهم وذويهم وبيئاتهم، ولا تحرّكهم مشاريع أيديولوجية متطرّفة، كما أن قياداتهم معروفة. وهؤلاء لن يدخلوا، في جميع الأحوال، إلى المناطق الكردية من دون اتفاق سوري وطني عام، ولن يكونوا عنصر تهديد موجهٍ ضد أي طرف سوري، بل ستنحصر مهمهتم في حماية الأمن والاستقرار في المناطق الكردية.
ونعود لنؤكد مجدداً أهمية فك الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال بالنسبة إلى الحالة الكردية، فهذه الخطوة ستؤدي إلى انفراج كبير على المستوى السوري الداخلي. وستخفف كثيراً من التوتر الإقليمي، سيما مع تركيا. وسيكون هذا الأمر موضع ارتياح لدى كرد العراق، خصوصا من الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي أبدى رئيسه مسعود البارزاني باستمرار حرصه اللافت على صيانة السلام الكردي - الكردي، وعمل دائماً من أجل الوصول إلى التفاهم بين الأطراف الكردية السورية، ولن يكون عائقاً أمام تحمّل القيادات الكردية السورية مسؤولياتها، والتصدّي لواجباتها؛ بل على العكس، سيشجعها على ذلك، لأنه سيتحرّر بذلك من أعباء كثيرة ترهقه، إلى جانب أعبائه الكثيرة على المستويين، الكردستاني والعراقي العام، وعلى المستوى الإقليمي بصورة أشمل.
عبد الباسط سيدا
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
عبد الباسط سيدا
مقالات أخرى
15 أكتوبر 2024
17 سبتمبر 2024
03 سبتمبر 2024