دكان أبو سعيد الأبيض

28 مارس 2016
لا أحد يفوز على الحاج سعيد في لعبة الداما(Getty)
+ الخط -
الجدار الإسمنتي الذي سدّ واجهة الدكان الصغير يصير قاتماً وثقيلاً يوماً بعد يوم. كأنه يقف فوق الصدر ويقطع الهواء عن الرئة. كل يوم يصير أبشع من اليوم الذي سبقه. كل يوم تصير المنطقة أكثر حزناً.

لم يكن هذا الجدار ليرتفع لولا أن الجشع طغى على أحدهم فقرّر أن يستولي على الدكان الذي يقع في البناء القديم. قرّر الجشِع أن يبتلع الدكان والبيوت العتيقة مقابل تعويض بسيط.

لا تاريخ محدداً للسنة التي أسّس فيها أبو سعيد الأبيض دكان السمانة. الأكيد أن هذا الأمر حصل قبل زمن طويل. والدكان على صغر حجمه الذي لا يزيد عن مترين بمترين كانت تعتاش منه عائلة أبو سعيد الكبيرة.

عندما تقدم العمر بأبو سعيد، أورث دكانه لابنه الحاج سعيد، الرجل الذي كان عبارة عن قلب طيب كبير. يحضر إلى الدكان في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر مباشرة ويفتح الباب الجرّار بعد أن تكون أرغفة الخبز الإفرنجي الساخن قد وصلت توّاً. فيتهافت الأطفال عليها قبل أن يصل الباص المدرسي. يختارون "المقمّر" والمنتفخ من بينها، يضعونها في الأكياس الورقية الخشنة (التي غابت لاحقاً لصالح الأكياس البلاستيكية) قبل أن يركضوا بها إلى المنزل كي تضع فيها أمهاتهم ما تيسّر من لبنة وجبن قشقوان وزعتر، لتصير "الزوادة" الأطيب في فرصة الساعة العاشرة خلال يوم الدراسة الطويل.

وللسكاكر حصّتها في دكان أبو سعيد، ولو لم تكن الأطيب طعماً أو الأغلى ثمناً. ومن لا يملك مالاً ثمن السكاكر فأبو توفيق (سعيد الأبيض) لن يسأله عن ثمنها. الحساب مؤجّل ويأتي لاحقاً. قد يكون في اليوم نفسه أو في اليوم الذي يليه، أو ربما لا يأتي أبداً. المهم ألا يشعر أحد هؤلاء الأطفال بأنه أقلّ حالاً من أقرانه الباقين.

لم تكن الأشياء في دكان أبو سعيد تشبه مثيلاتها في الدكاكين الأخرى. ليفة الحمّام مثلاً هي الليفة البلدية الخشنة التي تخدش الجلد حتى يكاد يتمزّق. كان يعلّق بعضها أمام الواجهة اليمنى للمحلّ فوق البرميل الحديدي الشهير. ولهذا البرميل قصة. فهو البرميل الذي كانت تجري فوقه مباريات الداما اليومية بعد أن يوضع لوح الخشب الذي رسمت عليه المربعات السوداء بقلم حبرٍ عريض. هنا تقام أكثر المباريات حماسة بين الحاج سعيد وأهالي المنطقة بشرطٍ لا يزيد عن مجموعة قناني بيبسي كولا مرتجعة يدفعها الخاسر للمشاهدين. ولا أحد يفوز على الحاج سعيد في لعبة الداما مهما كان محترفاً وقديراً.

مات أبو سعيد، ومات ابنه سعيد، ثم مات توفيق بحادث سيرٍ تافه وابتلع الجشِع الدكان وأقفله.
صحيح أن الدكان أقفل قبل سنوات عدة. لكن أهل المنطقة ما زالوا يدلّون على أي عنوان في المنطقة انطلاقاً من دكان أبو سعيد الأبيض.

اقرأ أيضاً: الرجل الذي سرقه جاره
المساهمون