دستور "ثوري" لتونس: قطيعة مع الاستبداد

29 يناير 2014
+ الخط -

عهد جديد افتتحته تونس قبل أيام بالمصادقة على الدستور بعد مرور ٣ سنوات على ثورة الكرامة، دفعت بالبعض إلى حد وصف الخطوة بالانتصار التاريخي. وإن كان نجاح تونس في اقرار الدستور يُعَدّ ضرورياً للمضي في تنفيذ المرحلة الانتقالية، فإن الأهم يبقى ما تضمنه الدستور من مواد تلبي تطلعات التونسيين وتصون حقوقهم وحرياتهم.

المتصفح لنَصّ الدستور يلاحظ، انطلاقاً من التوطئة التي تتصدره، الحسم في اختيار نهج الحداثة سبيلاً لتونس جديدة أو متجددة، اذ تنص المقدمة على "التأسيس لنظام جمهوري ديموقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية، الحكم فيها للقانون والسيادة فيها للشعب... تضمن فيها الدولة الحريات وحقوق الانسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات...".

روحية هذه التوطئة تُرجمت ضمن مختلف فصول الدستور، ولا سيما في باب الحريات، إذ يؤكد الفصل الثاني على أن "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب وعلوية القانون". إرادة وحرية يعبّر عنهما شعار الجمهورية الوارد في الفصل الرابع، باستناده إلى مفاهيم أربعة وهي: حرية، كرامة، عدالة ونظام.

أما إنجاز حسم المدنية في الدستور، فأتى بعد صراع وتجاذب خاضهما المجتمع المدني في سبيل الفصل بين الدين والدولة. وتخلل ذلك تبادل للتهم والتكفير بين أطياف الشارع السياسي، وصولاً إلى قبة المجلس التأسيسي نفسه، قبل أن يذهب الدستور في صيغته النهائية في فصله السادس الى كون الدولة "راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي". وبذلك يُقطَع الطريق دستورياً أمام ظواهر التجييش في المساجد أو الزج بالخطاب الديني في معترك الحياة السياسية.

موروث تونس مع ما حازته المرأة تحرراً وشراكة وفعالية في المجتمع، حضر أيضاً في الدستور، وتُرجم تحديداً في الفصل العشرين بقوله: "المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. وتضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق الفردية والعامة".

انطلاقاً من ذلك وصولاً إلى الفصل الخامس والثلاثين، يراكم الدستور جانباً حقوقياً لافتاً، ولا سيما في ما يتعلق بالتأكيد على أن "الحق في الحياة مقدس" (21)، وأن "تحمي الدولة الحياة الخاصة، وحرمة المسكن، وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية" (٢٣).

على صعيد آخر، منع الدستور التونسي الجديد سحب الجنسية من أي مواطن، فضلاً عن تشديده على حق اللجوء السياسي، ومنع تسليم اللاجئ وبقاء المتهم بريئاً الى أن تثبت إدانته.

كما يؤكد على أن العقوبة شخصية، وعلى أحقية المعاملة الانسانية وحفظ الكرامة لكل سجين، مع التشديد على"حرية الرأي والتعبير والاعلام والنشر"، مع ضمان حق النفاذ الى المعلومة، وحرية تكوين الاحزاب والنقابات والجمعيات والحق النقابي بما في ذلك حق الاضراب.

لعل أبرز ما يتفق عليه المتابعون للشأن التونسي، أن ما تضمنه الدستور يبدو منسجماً مع التنوع الثقافي والثراء التاريخي لتونس، وموائماً لكونية الانسان في مستوى الحقوق والتطلعات. هذا الانجاز مرتبط أساساً بمجتمع مدني حيوي في البلاد، أمكن له عبر مراكمة النضال والحراك السلمي، فرض دولة مدنية مشبعة بقيم الحرية على الاقل من خلال فصول الدستور المكتوبة.

كما أن الأمر مستند الى استبطان المجتمع والدولة التونسية منذ نشأتها بعد الاستقلال لمكانة أساسية للنسيج المدني، ما أتاح للناشطين المدنيين الصمود أمام المضايقات التي تعرضوا لها، لتساهم جملة من التحركات الشعبية والمطلبية على مدى المرحلة الماضية، فضلاً عن التسوية بين القوى السياسية، في تكريس بعد حقوقي واضح ومدنية صريحة لجمهورية ثانية.

يبقى أن معركة خيار الحداثة والحفاظ عليه تتطلب يقظة دائمة لأن ما دُوّن في الدستور ينبغي أن يترافق مع القوانين ستتولى الهيئات التشريعية سنّها.

دلالات
المساهمون