منذ ذلك اليوم بدأتُ أنتبه لتلك الأسطوانة المغروسة في طريقي اليومي للعمل. لا أنتبه إليها فقط بل أركلها بقدمي كأيّ صبي أزعر يتلذّذ بتخريب ما حوله.
لاحظتُ في طريق عودتي أن هناك درّاجة هوائية، مربوطة بسلسلة حديدية متينة حول تلك الأسطوانة. ضربت الدرّاجة هذه المرّة أمام نظرات السابلة المستغربة، وتابعت طريقي كأنّ شيئا لم يكن. هكذا صارت لعبتي الأثيرة للانتقام لكولوني وساقي معاً. أرفس الأسطوانة صباحًا، وأركل الدرّاجة بعد الظهر.
لم يخطر لي أن هذه الشيطنة الصغيرة، ستفتح عليّ باب الجحيم.
نشأت بيني وبين الدرّاجة والأسطوانة علاقة ما. لا أعرف ماذا أسميها بالضبط، فقد باتا مصدراً مهمًاً لتفريغ غضبي وخوفي وألمي. كلما اختنقت من الجو المعكر بالطائرات الحربية، والقذائف الطائشة والموت المجاني، أخترع طُرقًا جديدة للتعامل مع الدرّاجة والأسطوانة معاً. يبدو هذا الأمر مضحكاً، لكنها الحقيقة. من تلك العلاقة مثلاً، تحديد مكان الركلة بالضبط لكل يوم، وإرفاقها بشتيمة بذيئة تناسب مهمة الجزء الذي يتلقى الركلة. قادتني تلك الحالة إلى التدقيق بشكل كبير بالدرّاجة. صرتُ أنتبه للطريقة التي رُبطتْ بها الدرّاجة بالأسطوانة. فهناك سلسلة حديدية سميكة تلتف حول المقود الأيمن حتى تصل الأيسر، وتتابع إلى المقعد تدور حوله دورة كاملة، ثم تتجه عائدة إلى الفرامل الأمامية ثم إلى الأسطوانة التي تربط المقود بالعجلة، بعدها تلتف حول العجلة الأمامية عدة دورات قبل تنطلق إلى الجنزير، ثم العجلة الخلفية، ومنه إلى المقعد ثانية، بعدها إلى الأسلاك... ما كل هذه المتاهة!؟
نكاية بهذا الاهتمام الزائد، ركلتُ الدرّاجة يومها ركلتين بدل الواحدة، واخترعت شتيمة عصرية وتابعتُ باتجاه البيت.
مع الأيام، صرتُ أنتبه للتحديثات التي تطرأ على الدرّاجة أيضًا. لقد استُبْدِلت المقابض بأخرى أكثر حداثة. بعد أيام غُيِّر لون الأنابيب بلون أحمر جميل، يخترقه الأبيض مسجّلاً ماركة الدرّاجة، وإشارات لم أفهم منها شيئاً. المقعد أيضًا استُبْدِل بآخر عصريّ تزيّنه كتابةٌ على الجانبين بالأبيض والأحمر. خمّنتُ أن صاحبها يعيش نشوة ما مع هذه الدرّاجة، وهو عاشق بالتأكيد. خلال شهر تقريباً كانت تبدو واحدة أخرى مصنوعة تحت الطلب. كانت تشبه كل الدراجات ولا تشبه إلا نفسها في ذات الوقت. حتى الإكسسوار الذي بالكاد يُلاحَظ، يبدو وكأنه قد فصّل لهذه الدرّاجة بالتحديد. شعرت يومها أن هناك أنثى أهدَتْ هذا الإكسسوار للدرّاجة وصاحبها معًا.
التحسينات الجديدة جعلتني أخفّف من حدّة ركلاتي، التي باتت كتحية غزل لذلك المخلوق الجديد. لكني بقيت أرفس الأسطوانة الحديدية بكل ما أوتيتُ من قوة.
كدت أنسى أمر الدرّاجة تلك، فحتى اللعبة الطريفة تفقد طعمها من فرط التكرار. إلى أن كان ذلك الصباح البعيد، حيث توقفَتْ ركلاتي الطائشة بشكل نهائي. الدرّاجة لم تغادر مكانها هذا اليوم. أكملتُ طريقي إلى العمل مع الأسئلة الوسواسية التي لم تجد لها إجابة حتى اللحظة.
لماذا صاحب الدرّاجة لم يُحرّك درّاجته اليوم؟
انتابني قلق غريب بمجرد رؤيتي للدرّاجة بمكانها. بالتأكيد صاحبها مريض. قلتُ هذا ومضيت بمحاولة لوضع نقطة بدل إشارة استفهام.
كانت هذه المرة الأولى التي أفكر بصاحب الدرّاجة بطريقة جدّيّة. حاولت تناسي الأمر وأنا بطريق العودة إلى البيت، لكن لمحة واحدة للدرّاجة المقيدة هلّتْ بالحزن الثقيل. رحتُ أتهكم على نفسي محاولة إبعاد الغم الذي غزا صدري وأنا أردّد: الدرّاجة لا تغادر في هذا الوقت يا حمقاء!
لكن الدرّاجة لم تغادر في اليوم التالي. اليوم الذي يليه لم تتحرك أيضاً. مرّ أسبوع على هذا الحال.
كيف لمشاغبات كنت ألهو بها لأنسى ثقل الحرب أن تجرّ عليّ كل هذه التساؤلات؟ هل تستحقُّ درّاجةٌ أن أعيش بسببها كل هذا القلق؟ لماذا أكذب؟ أنا لا أفكر إلا بصاحب تلك الدرّاجة. هذا الزائر الجديد هو من جرّ عليّ هذا.
تبدّلَتْ ركلات وشتائم النقمة إلى تحايا صباحية ومسائية مفعمة بالترقب. صباح الخير أيتها الدرّاجة. مساء الخير يا دراجتي. ألقي السلام وكليّ أمل في أن يكون صاحبها بخير.
اسم مالك الدرّاجة جود، بالتأكيد اسمه كذلك. ليس خيالي وحده المسؤول عن هذا الاسم، الدرّاجة تقول ذلك أيضًا. رأيته في المنام يركب دراجته، ويفتح ذراعيه للهواء بما يشبه الطيران. كان يشبه إلى حد كبير طيران الممثلة Meg Ryan على درّاجتها في المشهد الأخير من فيلم City of Angels.
عندما ننتظر، يتوقف الزمن. هكذا أصبح لديّ الوقت الكافي لأفكّر بجود: شكله، ما يحب وما يكره، عاداته، حرصه، طريقته في الكلام، حبّه للتكنولوجيا والأشياء العصرية، طريقته في اللباس السبور تحديداً، ما تحويه صفحته على الفيس بوك. الفيس بوك!؟ مع هذه الكلمة وجدت متنفسًا، لِمَ لا أبحث عنه هناك؟
بحثتُ عنه مطوّلاً على صفحات فيس بوك، لأضيفه كصديق. بحثت في الصور ثم في الأسماء، ثم حسب موقع المدينة والحيّ والشارع. أيام عديدة مرّت وأنا أبحث عنه على تلك الجدران الإلكترونية اللعينة. أين أنتَ يا صديقي؟ ألستَ صديقي؟ ألم نبدأ التعارف بعراك؟ ألم يقل المثل السائد "لا تأخذ صاحب إلا بعد قتلة".
جاءتني فكرة حمقاء باشرتُ تنفيذها على الفور. بأصابع مرتجفة كتبتُ بحقل البحث على صفحتي الفيسبوكية "فرع الأمن.." قبل أن أنتهي من كتابة الاسم، بدأت تأتيني المقترحات "فرع الأمن السياسي السوري الإلكتروني" "فرع الأمن العسكري السوري" "فرع الأمن العسكري 215" بدأت أقلب تلك الصفحات، علّي أجدك. أبحث بلا جدوى، فكل الأخبار هناك عن الضربات الناجحة للجيش لمناطق كنت أعرفها جيّداً. البوستات لا تحمل خبراً عنك. ما شأنك أنت بالعمليات النوعية التي يقوم بها سلاح الجو لمواقع الإرهابيين؟
كنتُ أدرك الحماقة التي أقوم بها. فهل يُعقل أن تضع فروع المخابرات معلوماتها الاستخباراتية التي تحوّلت لمعلومات حربية على صفحات فيس بوك؟
بعد الفشل بالبحث عنك على المواقع الافتراضية، عدْتُ إلى الموقع الواقعي. رجعتُ إلى الدرّاجة تحديداً، فهي الدليل إليك.
صباح الخير أيتها الدرّاجة. مرَّ شهرٌ ولم تغادري مكانك، هل أنتِ بخير؟
بدوتُ كالمجنونة لا أفكر إلا بدرّاجة مرمية في وسط شارع كعلامة استفهام في غير مكانها. أين جود؟ أين صاحب الدرّاجة؟ لماذا لم يعد يأخذها صباحًا ليعود إلى بيته في المساء. لماذا يتركها هكذا تحت المطر والشمس والهواء، هو الحريص عليها كلّ الحرص؟ وأنتِ؟ لماذا لم تعودي للتحليق مع جود وياسمينا؟ لماذا أنت هنا؟ ألا ترين أن الصدأ بدأ يتسلل إليك؟
ياسمينا. إذا هي ياسمينا حبيبة جود. بتُّ أعرفها جيدًا هي الأخرى. تلك المشاغبة، بحركاتها الطفولية التي تفيض أنوثة.
يحبها جود أكثر عندما تبدأ بمحادثته مقلّدة الأطفال بتلعثمات مضحكة لبعض الحروف. تركب خلفه على الدرّاجة، تلف يديها حول خصره وتقترب بفمها من كتفه الأيسر لتوقّع قبلة دون أثر لأحمر الشفاه. ياسمينا لا تحب أحمر الشفاه. قبلاتها تترك أثر ريقها فقط. تنتقل بفمها إلى الكتف الأيمن عضة صغيرة. يعترض جود بصوت الأخ ممزوجاً بضحكة. ترد ياسمينا بعضات متتالية وهي تقول:
أعرف أنك لا تحب اللعاب - كما تسميه أنت - على ثيابك، لكنك لن تحلم بأن يتحقق هذا.
كيف لي أن أبعد هذا المشهد من خيالي؟
أيوجد مكان للحب يحيا فيه أخطر من هذا؟ هكذا نعشق تحت القذائف وبين الركام. حيث يكون للحب طعمٌ مختلفٌ وجديدٌ نتحوّل معه إلى أنقاض بشرية.
لديّ زوادة كبيرة الآن لأيام قادمة عن حكاية جود وياسمينا ودرّاجة مقيدة في وسط دمشق.
هناك خطأ ما، الدرّاجة ليست لجود. لكن ما أهمية هذا الخطأ الآن، فالدرّاجة لا تزال مكانها!؟ تحركي أرجوكِ، العجلات صنعت للدوران، لا لتأكلها التشققات من كثرة الوقوف.
لم تعد تحياتي تقتصر على صباح الخير ومساء الخير. بدأتُ أتلو معلقة من الدعوات والتمنيات بأن أعود لسابق عهدي. أريد أن أرفس الأسطوانة في الصباح وأركل الدرّاجة بعد الظهر. تلك المشاغبات تناسبني أكثر من تحيات ودعوات لا طائل منها.
الجنون صار أقرب من هذا العقل العاجز عن تفسير الأشياء. صرت أغادر العمل مرات عديدة في اليوم لأتفقّد الدرّاجة.
أسأل الناس؟ لكن عمّن أسأل؟ عن الأسطوانة الحديدية؟ عن سلسلة؟ عن درّاجة هوائية؟
مع كل هذا العماء رحت أسأل. سألت أصحاب المحلات التجارية في ذلك الشارع. لم تكن تعنيني نظرات الريبة التي يطالعوني بها. أسأل بكل ما في داخلي من قلق، على ما لا أعرف. الأجوبة القليلة الصادقة التي حصلت عليها كانت لا تكشف شيئًا.
كمن استقدم همًاً فوق همه، هكذا بتُّ لا أعرف شيئًا، وبالمقابل أنا الوحيدة التي تعرف كل شيء.
أصبح ذهابي إلى العمل مقروناً بتفقّد الدرّاجة. أمسحها من الغبار الذي يهاجمها في غيابي. لا تعنيني الأعين التي تنظر إليّ بكل تلك الريبة.
أغطّيها بأكياس النايلون عندما يهجم المطر. أحاول حمايتها من هذا الصدأ الذي بدأ يعلوها.
أفرغ قنينة الماء لتبريدها من شمس دمشق الحارقة بمحاولة لتبليل شفتيها.
بداية الجنون ما يحدث لي بكل تأكيد. لماذا لا أنسى هذه الدرّاجة وكل أمرها؟ لقد باتت تدخل إلى أحلامي أو كوابيسي التي لم أعد أفرّق بينها.
أين أنت يا جود؟
أنا أعرفك جيداً. أستطيع أن أصف كل شيء فيك، مع أننا لم نلتق أبداً. عيناك الترابيتان تلتمعان كلما رأيتني أهتمّ بدراجتك. حتى أني أكاد أسمعك وأنت ترد تحياتي الصباحية والمسائية عندما ألقيها على الدرّاجة.
كيف أخبرك بما حدث اليوم؟ لا لن أخبرك. يجب ألا تعرف، فالمقعد يعوّض، وسنشتري واحداً جديدًا عندما تعود.
نعم، لقد سُرِق مقعد الدرّاجة. لا أعرف ولا يبدو مهمًّا أن أعرف الفاعل. ربما تكون تلك الفعلة لأحد الصبيان الأشقياء فقط. لكن الهواجس التي بدأت تراودني هي المشكلة. كيف سأحمي هذه الدرّاجة؟ أو على الأقل، أعقّد أمر سرقتها قليلا على اللّصّ المحتمل؟
بدأتُ أُحضّر لخطّة دفاعية محكمة. في اليوم التالي ومنذ الصباح الباكر بدأت أُلْبِس المقود كولون ساتان جديد. المقعد الخلفي أيضاً له كولون جديد. والعجلتان لبست كل واحدة فردة من كولون ساتان أيضًا. كان الأمر شاقاً بالنسبة للعجلات بعكس المقود، فليس سهلاً أن أمطّه بحجم عرض العجلة، مع أني اشتريته من أكبر مقاس. لكن الأمر تمّ على أحسن ما يرام بالنهاية.
خطّتي الدفاعية بدأت تنهار شيئًا فشيئًا. فلعبة العيش في الحكاية كأليس في بلاد العجائب لا تصلح لبلاد تعيش الحرب والموت، الحكايات هناك تنتهي بالموت المخصص لهذه البلاد.
هكذا بدأَتْ تفقد الدرّاجة أجزاءها يومًا بعد الآخر.
بعد المقعد سرق المقود. هناك من كسره محاولًا سحب الدرّاجة، ممزقاً كولونات الساتان الجميلة. لم يعد باستطاعتي فعل شيء. فمع الأيام راحت الدرّاجة تفقد جسدها قطعةً فقطعة. سقط قلبي عندما رأيتها مرمية على الأرض بعد أن اختفت العجلتان الأمامية والخلفية. بعدها جاء دور الدعسات التي انتشلت بلا رحمة.
أراها تغادر يوما بعد يوم ولا أستطيع فعل شيء لها. لأكسر ذلك العجز، رحتُ أتابع الاهتمام بالأجزاء الصامدة فقط.
ثم جاء ذلك الصباح الغائم الذي لم يعد فيه درّاجة هوائية. كانت هناك أسطوانة حديدية منتصبة وحدها في وسط الطريق، ترتمي حولها سلسلة حديدية ثخينة.
وقفت دقيقة صمت، ربما أكثر قليلاً، ثم أخرجت كولون الساتان الجديد من حقيبتي، ألبسته للأسطوانة، وهمست بحياء شديد، رافقته غصة كادت تخنقني:
عمتِ صباحاً أيتها الدرّاجة.
* من مجموعة قصصية بعنوان "حيث تشير البوصلة" صدرت حديثاً عن "منشورات المتوسط".