دروس مجانية في الدبلوماسية الدولية

08 أكتوبر 2018
+ الخط -
حين كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتحرش برئيس وزراء كندا جاستن ترودو ويهاجمه بشكل شخصي، ويحاول إثارة أحقاد تاريخية بين البلدين إذ ذكر الكنديين بأنهم هاجموا أميركا في السابق وتغلبوا عليها وأحرقوا البيت الأبيض، كان يحاول مضايقة ترودو بذات طريقة الأميركان المعهودة كما يقوم صبية المدارس بالتحرش بالضعيف وافتعال مشكلة من لا شيء لتلقينه درساً في الخضوع لفتوة الحي.

فعل ترامب ذلك، ولكن ترودو ذو الدماء الإنكليزية الباردة لم يكترث لذلك، وتجاهل الإهانات الشخصية حين لم يصافحه ترامب في الأمم المتحدة، وغلّب مصلحة بلده على أحقاده الشخصية، فأولاً وأخيراً هو يتصرف كرئيس دولة مسؤول، وإلغاء اتفاقيات تجارية ووضع ضرائب على بعض الصادرات الكندية كالحديد والألمنيوم ستؤذي بالدرجة الأولى الصناعات الأميركية التي تحارب الصناعات الصينية وتحاول أن توفر في مصاريف المواد الأولية لمنافسة البضائع الصينية.

وهكذا خدم طول النفس ترودو في ذلك، فقد بدأت الشركات الأميركية وأولاها فورد في رفع الصوت عالياً للأكلاف المتزايدة لمواد التصنيع الأولية، إذ أعلنت أنها تخسر ما مقداره بليون دولار كل شهر بسبب التعريفة الأميركية الجديدة على الصلب الكندي الذي تستعمله في صناعة سياراتها وهذا ما يحد من قدرتها على المنافسة.

شركات أخرى أبدت القلق نفسه، ومن المهم لترامب أن لا يغضب قطاع الأعمال، إذ يدعي هو أنه يحاول إعادة إحياء الصناعات الأميركية في مواجهة المنافسة الخارجية.


إذا طول النفس الكندي ساهم في أن ترضخ أميركا للشروط الكندية، ورغم أن المفاوضات لم تكن سهلة وكان الأميركيون عنيدين وحاولوا ابتزاز كندا والمكسيك لتغيير اتفاقية (نافتا)، نجحت كندا في الحصول على الاتفاقية التي تريد وبالشروط التي أرادت، رغم أن المندوبين الكنديين صرحوا أن الجانب الأميركي كان يحاول استفزازهم للخروج عن طورهم وترك المفاوضات، ببساطة كانوا يستعملون أسلوب رئيسهم نفسه في محاولة التعجرف وفرض شروط مجحفة وإحراج الطرف الآخر لإخراجه.

بم يذكرنا ذلك؟.. لا شك بأن الجانب الأميركي يستعمل وسائل ضغط نفسية مجربة ومضمونة، ويتبع مدارس في علم النفس وطرائق الضغط على الخصم والتنمر، لكن الجانب الكندي لا يخفى عليه الخداع الأميركي.

الجانب الكندي كان يحاول أن يحافظ على مصالح الدولة ولم يكترث للعامل الشخصي في الموضوع.

هذه القصة تذكرني بقصة ما زالت تشغل العالم العربي وتقسمه إلى يومنا هذا، هي قصة غزو العراق للكويت. ففي أحد مبررات صدام حسين للغزو أن أحد الكويتين قال إنه سيخرج ويدفع عشرة دنانير لشراء الماجدات العراقيات، فثارت حمية صدام حسين وغزا الكويت والفيديو موجود على يوتيوب لمن أراد مشاهدته.

طبعاً كان الكل يعلم أن الأميركيين حرضوا الكويتين لزيادة الإنتاج وخفض أسعار النفط وتحريك موضوع الديون لتركيع العراق، وقد فعلوا ذلك مؤخراً مع تركيا في موضوع المضاربة على الليرة التركية.

بل تجاوز الأمر ذلك حين دعا جورج بوش الأب البروفيسور فؤاد عجمي، وهو أميركي من أصل لبناني، وطلب إليه تقديم تقييم مفصل لشخصية صدام حسين، وبناء عليه قام بوش بصياغة خطاب طلب فيه من صدام حسين أن يخرج مذعناً ومذلولاً من الكويت، ولم يتوان عن تضمين أحقر العبارات وأقساها ليخاطب شخصية البدوي الأعجر، الغيور ذي الأنفة في صدام حسين، حسب نصيحة عجمي.

حتى إن كولن باول وقتها استغرب الألفاظ غير الدبلوماسية التي تضمنها خطاب رئيسه، ونبهه لذلك فما كان من بوش إلا أن ضحك.

كان بوش يحاول أن يدفع صدام حسين لئلا ينسحب من الكويت، لأنه إن فعل ذلك فسيفقد هو الذريعة التي جمع القوات الدولية تحتها لضرب العراق، وتخليص إسرائيل من عدو خطر كصدام حسين، وكان الطريق لذلك الإحراج والإذلال لعلمهم أن صدام لا يقبل الأذية والتحدي الشخصي.

نجحت خطتهم مع صدام، لكنها فشلت مع ترودو الذي تصرف ببرودة دم إنكليزية زائدة عن اللزوم، وهز كتفيه حين تجاهله ترامب ولم يسلم عليه وضحك.

في هذه الدول يتصرف المسؤول كمسؤول ولا يتخذ قراراته بناءً على خلفيات وثارات شخصية، ويضع نصب عينيه أن مصلحة بلده فوق كل اعتبار. حتى إن الرئيس في معظم الأحيان لا يمكنه تغيير الكثير من القرارات لأن هناك مؤسسات عميقة هي التي تدرس كل قرار وتقترح الأنسب، وقد رأينا ما حدث حين حاول ترامب أن يضرب الأسد فقد كان قراره أن يغتاله، ولكن الدولة العميقة كان ترى خلاف ذلك، فهم يرون أن الأسد لا يزال الخادم الأكبر لإسرائيل فليس من المصلحة إزاحته حالياً رغم إجرامه.

أما في بلدان الأشخاص فتتغير السياسات مع مجيء شخص وذهاب آخر، وكأن البلد ملك لهذا أو لذاك، وكأن مصالح المواطنين رهن بمزاج رئيس يغضب من رئيس بلد آخر فيقفل الحدود مع بلد آخر معطلاً مصالح الملايين ومسبباً خسائر بالمليارات.

هذه هي دول المؤسسات التي لا تتأثر كثيراً بمزاجية الأشخاص، وحين يفكر حكام العالم الثالث بعقلية مصلحة الدولة والمواطن أولاً فستحل الكثير من مشاكل هذه الدول وستضع هذه الدول قدمها على السكة الصحيحة للنجاح.

7F7C2416-B720-4906-ACFE-73D4127D7B5F
حسن علي مرعي

درست الشريعة في "أزهر لبنان"، فرع البقاع، ثم درست الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأتابع دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في معهد ماستشوسش التقني وجامعة وست فرجينيا..أهتم بالأدب، شعره ونثره بالإضافة إلى العلوم السياسية والتاريخية، ولا يقلل هذا من اهتماماتي بالتاريخ أو بالاقتصاد وسائر العلوم الإنسانية الأخرى.