وبدّدت إنجازات "درع الفرات" خلال الأيام القليلة الماضية، طموحات "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، والتي كانت تسعى للتقدم نحو مدينة الباب، إذ إن "وحدات حماية الشعب" الكردية، وهي العصب والعمود الفقري لـ"قسد"، كانت تتطلع للسيطرة على الباب، كون موقعها الاستراتيجي، يخدم طموحات الوحدات العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بزعامة صالح مسلم، بربط مناطق نفوذه في الحسكة شمال شرق سورية، بتلك التابعة له في عفرين شمال غرب البلاد. وكانت الوحدات الكردية قد عزّزت من إمكانية إقامة ما تُطلق عليه "روجافا" (كردستان الغربية والمقصود بها سورية)، بانتزاعها السيطرة على مدينة منبج من "داعش"، بدعم من طيران التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن في أغسطس/آب الماضي، لكن أنقرة عبرت عن رفضها القاطع بقاء "وحدات حماية الشعب" الكردية التي تصنفها كقوى "إرهابية" لكونها امتداداً لحزب العمال الكردستاني في مناطق غربي نهر الفرات، حيث تقع كل من منبج والباب.
وذكرت "وحدات حماية الشعب"، في بيان نشرته على موقعها الرسمي، "بعد أن أكملت وحداتنا المتواجدة في مدينة منبج وريفها مهامها في التحرير والدفاع عن أهلنا في منبج، نعلن عن انسحاب قواتنا إلى شرق نهر الفرات للمشاركة في حملة غضب الفرات لتحرير الرقة، وهي واثقة بأن القوات التابعة لمجلس منبج العسكري قادرة على القيام بواجباتها الدفاعية على أكمل وجه". ومن المؤكد أن ضغوطاً سياسية تقف خلف انسحاب المليشيات الكردية من منبج، والتي تطمح للوصول إلى مدينة الباب. ووصف المبعوث الأميركي الخاص، بريت مكغيرك هذه الخطوة بأنها "حدث مهم"، قائلاً، على حسابه على "تويتر"، إن كل "وحدات حماية الشعب" الكردية ستغادر منبج بعد تدريب الوحدات المحلية على الحفاظ على الأمن في مواجهة "داعش".
وأشار مستشار الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، سيهانوك ديبو، إلى أن البيان هو الثاني الذي تصدره "وحدات حماية الشعب"، لافتاً، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "البيان الأول صدر بعد تحريرها في 12 أغسطس/آب الماضي، والبيان الأخير (الأربعاء) هو بمثابة تأكيد للمؤكد". وأضاف "على الرغم من أن وحدات حماية الشعب متحالفة مع التحالف الدولي، بقيادة أميركا، فإنها تفعل ما تملي عليها الأجندة الوطنية السورية وما تجده مناسباً حالياً ومستقبلياً". أما المتحدث باسم "مجلس منبج العسكري"، شرفان درويش، فقد أشار إلى أنه و"منذ البداية كان الهدف الوصول إلى مرحلة يكون للمجلس العسكري القدرة التي يستطيع بها حماية منبج"، معتبراً "أن الوحدات كانت انسحبت، ولكن كان هناك من يساعد مجلس منبج على القيام بمهامه، والآن بعد (انطلاق) معركة الرقة انسحب من تبقى منهم، وذلك ضمن برنامج مقرر مسبقاً". وأشار درويش، وهو قيادي كردي في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "لا تواصل مع فصائل درع الفرات" المدعومة تركيا. وتوعد، رداً على ما يثار من إمكانية توجه قوات "درع الفرات" إلى منبج عقب سيطرتها على الباب، "بالدفاع عن أنفسنا إذا وجد أي تهديد". ويتألف "مجلس منبج العسكري" من عناصر وقيادات عربية وكردية، لكن قوى محلية تتحدر من منبج، ومقربة من رؤية فصائل المعارضة السورية وقواها السياسية، كانت قد عبرت، منذ الإعلان عن تشكيل "مجلس منبج العسكري" الذي ينضوي تحت راية "قوات سورية الديمقراطية"، عن رفضها "مسرحية انتساب بضع ممن يدعون أنهم ممثلون لمكونات الشعب وفصائل منبج، لقوات سورية الديمقراطية، ونبين أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم". وأعلن "المجلس المحلي لمدينة منبج وريفها"، في بيان مطلع أبريل/نيسان الماضي، رفضه "رفضاً قاطعاً أي مشاريع تفرض بقوة الأمر الواقع، من فيدرالية وغيرها، تفتح طريق تقسيم الدولة السورية مستقبلاً على أي أساس كان". واتهم من شكلوا "مجلس منبج العسكري" بالولاء للوحدات الكردية.
وشيئاً فشيئاً، يتضح مشهد مستقبل مناطق غربي نهر الفرات، والتي تقع بين مناطق نفوذ الوحدات الكردية في الحسكة وعين العرب (كوباني)، وعفرين غرباً، إذ إن صورة النفوذ والصراع في هذه المنطقة كانت شائكة ومعقدة، وتتغير بفعل التفاهمات السياسية المبهمة. لكن ضبابية هذه الصورة، آخذة بالتبلور شيئاً فشيئاً، إذ بات لفصائل الجيش السوري الحر، التي تدعمها تركيا، النفوذ الأوسع الآن. وقد بدأ ذلك فعلياً في 24 أغسطس/آب الماضي، عندما أطلقت أنقرة عملية "درع الفرات" التي سيطرت حتى اليوم على مساحة تبلغ نحو ألفي كيلومتر مربع، وتمتد بمحاذاة الشريط الحدودي مع تركيا، بطول نحو 90 كيلومتراً من جرابلس شرقاً إلى غرب مدينة اعزاز غرباً، وبعمق يزيد عن العشرين كيلومتراً، وربما يتوسع، إذ إن مدينة الباب تقع جنوب الحدود التركية بنحو 30 كيلومتراً.