13 نوفمبر 2024
درعا من الثورة إلى الاحتلال
تعقّدت أزمات سورية، مع سياسة اللبرلة التي اعتمدها النظام، ولا سيما عام 2000، وذلك للتخلص من سياسات القطاع العام القديمة، وليحتكر كبار رجال السلطة، وقد اغتنوا من قبل، نتائج اللبرلة هذه. أي أنّه، وبعد إكمال نهب القطاع العام، كان لا بد من قوانين جديدة، تُسهٍل لأبناء سلطة السبعينيات السيطرة الكاملة على السوق، بعد التسعينيات، وهذا يوازي السيطرة على النظام والسلطة بكل مستوياتها.
السياسة الاقتصادية هذه، وهي سياسة عالمية بدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ومن نتائجها رفع أسعار كل المواد في السوق، بعد أن تخلت الدولة السورية عن دعم المواد الأساسية، ولا سيما أسعار المازوت والأعلاف بصفة خاصة؛ وكذلك حينما انفتحت على تركيا، بعد خسارتها لبنان 2005. هذان العاملان بالتحديد أدّيا إلى انهيار الصناعات الأولية والزراعة، فارتفعت أعداد العاطلين من العمل بشكل كبير، وانخفض مستوى دخول الناس، وازدادت طبقة المفقرين، وانخفضت كذلك قيمة العملة؛ هذه من نتائج اللّبرلة، وهي سياساتٌ
تماثل ما تمّ في كل العالم العربي قبل 2011، وتسببت بثوراتٍ شعبية عارمة. يختلف الأمر في سورية، بسبب طبيعة النظام الأمني والعسكري؛ حيث لا يقارَن نظاما تونس ومصر به، قمع ومنع كل شكل للعمل السياسي والنقابي والفلاحي والشبابي، بينما الأمر في ذلكما البلدين لم يكن بهذه الصورة أبداً. إذاً لم تأت الثورات من عدم، وإنما هناك أسبابٌ عديدة أدّت إليها.
مشكلات درعا
درعا التي تُحسب تاريخياً على النظام، ومنها قيادات كبرى في الدولة، ولم تتحرّك في أزمة الثمانينيات ضد النظام. درعا هذه تخلو من أية مصانع، تستوعب العاطلين من العمل، وهي مدينة زراعية بامتياز كذلك، والأهم أن فيها نسبة عالية من المهاجرين إلى دول الخليج ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وهو ما ساهم بنهضةٍ زراعية فيها. الهجرة هذه دلالة أكيدة على غياب التنمية في سورية، وكذلك وجود ملايين السوريين من بقية المدن السورية في كل من لبنان والخليج. على كل حال، هذه أسباب أولية، يضاف إليها العامل العربي 2011؛ فالثورات العربية تُطيح الأنظمة، وبالتالي تشكلت عوامل داخلية وخارجية للبدء بالثورة.
دخلت درعا الثورة كما كل المدن السورية، وهي تكابد أزمات الإفقار والقمع السياسي وافتقاد السوريين أية حقوق وحريات؛ وهناك عامل آخر، حيث مَنعت الدولة حفر الآبار في بعض مناطق درعا، لأنها مناطق حدودية، وهذا جعل وضع الفلاحين كارثياً، حيث يُجبرون على دفع الملايين بين الرشاوى وكُلف الحفر. وقد أدار النظام الأمني الأزمة الثورية 2011، كما كان يفعل طوال مراحل سيطرته على سورية، أي منذ السبعينيات خصوصا، وبشكل متشدّد بعد أزمة الثمانينيات.
وللثورة أسباب عديدة، وقد أشير إليها أعلاه، وبالتالي كانت ستحدث لا محالة. أما شرارتها فقد بدأت في درعا، بعد حكاية الأطفال الذين أرادوا محاكاة ما يحدث في الدول العربية، فكتبوا "خربشاتٍ" على جدران مدرستهم، وفيها تنديد بالنظام الذي مرّر سردية إعلامية سمجة: إن سورية ليست كمصر وتونس. لم ينتبه إلى خطورة الوضع الثوري في سورية، وكان لإجابة أجهزة الأمن بأن ينسوا أطفالهم في المعتقلات، وأن ينجبوا أولاداً غيرهم، أو أن يأتيهم أهل درعا بنسائهم "فيحبّلوهن هم" مفعول السحر! هذا الرد، وعلى خلفية التأزم الشديد، فجّرَ المدينة، ولحقت بها بالتدريج كل بلدات درعا، وكلما كان يزداد القتل والقمع والاعتقال كانت الثورة تشتعل، وتنضم بلدات جديدة، وألوف جدد وعائلات وعشائر بأكملها، ومدن سورية
أخرى. التآزر المحلي ومظاهرات بقية مدن سورية، سيما في المناطق الأكثر تهميشاً، والمدن المهمّشة، دفعت بالثورة لتنتقل من المطالبة بالإصلاح، (العرائض إلى رئيس الجمهورية وزيارته من وفود من أغلبية المدن السورية)، والمطالبة بإعفاء المحافظين وكبار رجال الأمن، إلى المطالبة بإسقاط النظام بكل رموزه، ولاحقاً من السلمية إلى العسكرة.
وعمّت المظاهرات السلمية كل بلدات درعا ومدينتها، وتفاوتت من منطقة إلى أخرى، وهذا حال كل بلدات سورية ومدنها. وكانت هناك رغبة في أن لا تتحول هذه السلمية، في الأشهر الأولى، إلى التسليح؛ لكن النظام، وبعد فشله أمنياً في التعامل معها، كان لا بد له من الانتقال إلى استخدام الجيش، ما أدى به إلى تسهيل تمرير السلاح للمتظاهرين. وعلى الرغم من رفض السلاح، في بادئ الأمر، فإن خيار العسكرة كان طبيعياً في سياق القتل اليومي في الشوارع أو المعتقلات. النظام إذاً أراد ذلك، وكذلك الميل الإسلامي الصاعد حينها أيضاً؛ فهما كانا يرغبان بتحويل الصراع إلى مُسلحٍ، وهو ما حصل لاحقاً، وأدى ذلك للقضاء على الثورة السلمية كلية.
تطوّر الثورة متلازمٌ مع شدّة القمع، وهذا أدّى إلى ظهور مجموعاتٍ صغيرةٍ مسلحة، وقد تكونت من عناصر منشقة عن الجيش، أو مدنيين ممن كان يتظاهر. ساد حينها شعورٌ بأن النظام لن يسقط من دون الصراع المسلح. حدث الأمر عينُه في أغلبية مدن سورية وبلداتها. هو سياقٌ طبيعيٌّ إذاً لتطور الأحداث، حيث رفض النظام التصالح مع الشعب، وتلبية حاجاته، والاعتراف بحقوقه وحرياته، وتشدّد في قمعه وقتله.
سمحت الحماية الخفيفة للمظاهرات بتوسعها وبقائها سلمية ووطنية، وترفض كل ميل طائفي. لم يكن هذا الأمر سارّاً، لا للإسلامين ولا للنظام. هنا أفرج النظام عن نحو ألفٍ من الجهاديين من سجونه في الشهر السادس من 2011، وكذلك فُتحت الحدود لدخول أمراء من "القاعدة" من الأردن وتركيا والعراق. ودفعت شدّة القمع الناس إلى أن يتقبلوا الوافدين الجدد للدفاع عنهم، ولم يكن الأمر تعبيراً عن رغبة في أسلمة الثورة، أو تبني مشروعٍ جهادي بأي حال.
التنظيمات الجهادية .. وتطورات نوعية
بدأت جبهة النصرة، مع العام 2012، تشكل خلاياها، وكذا أحرار الشام، وأخيراً منظمات متشددة وجهادية أكثر فأكثر، وقد انضوت ضمن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقاً. وكانت فُتحت لجبهة النصرة والتشكيلات المماثلة الحدود والسجون والسلاح والمال. وقبالة ذلك كان الاعتقال والقتل يلاحق شباب التنسيقيات ومجموعات الجيش الحر. وهنا يمكن ملاحظة كيفية تصفية النظام وإيران وروسيا كل فصائل الجيش الحر أو الفصائل الإسلامية، وأخيراً يتم الانتهاء من التنظيمات الجهادية، مثل داعش وجبهة النصرة. فلنلاحظ في درعا أنه لم يتم الاقتراب من جيش خالد بن الوليد (تشكل في 2016، من لواء شهداء اليرموك، وجيش الجهاد، وحركة المثنى الإسلامية) حتى بعد توقيع الاتفاق الأولي لتسليم المدينة في 7-7-2018. وما زالت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) تتحكم بمدينة إدلب.
وتشكلت في العام 2014 الجبهة الجنوبية، وهي تضم عدداً كبيراً من الفصائل (54-58)، ودُعمت من غرفة الموك التي تشكلت عام 2014 في الأردن، وهي غرفة تمويل وتسليح وتدريب للجبهة، وكذلك غرفة للاستخبارات العالمية، وتشرف عليها بشكل أساسي أميركا والأردن، وهناك ممثلون لدول كثيرة فيها. هي غرفة محسوبة أساسا لصالح الأميركان، وطبعاً هناك تنسيق إسرائيلي أميركي يتعلق بكيفية السيطرة على تلك الفصائل؛ فهي استطاعت السيطرة على الحدود، مع كل من حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي والأردن. ولهذا كان لا بد من معرفة كل ما يخص هذه الفصائل وضبط عملياتها وإخضاعها باستمرار، وقد أصبحت في 2015 تتلقى الأوامر من "الموك"، ومن يرفض منها تمنع عنه المساعدات. وكذلك أصبحت "الموك" تتدخل في السماح بشن المعارك أو إيقافها أو تغيير اتجاهها، وهكذا. ما رفضت "الموك" تسليمه، كما حال كل دول "الدعم" للفصائل، هي الصواريخ التي في مقدورها إسقاط الطائرات، وهذا ما سهّل انتقال النظام إلى استخدام الطيران لقصف المدن وتدميرها، وكذلك فعلت روسيا، حيث تدخلت عام 2015 جويا، وحققت الانتصارات بسبب غياب الصواريخ تحديدا.
مشكلات في الفصائل
تكمن مشكلة الفصائل المسلحة في سورية في افتقادها قيادة سياسية تعبر عنها، وتوجهها وتحدّد لها استراتيجيتها؛ فلم يستطع المجلس الوطني السوري، ولا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولا سواهما، أن يكون قيادتها، كما لم يستطع ذلك في مرحلة الثورة السلمية. وهناك غياب مرجعية قانونية ضابطة لكل ممارسات تلك الفصائل (ما سمح للجهاديين بتشكيل محاكمهم الشرعية)، وقد تشكلت على أساس الولاءات العائلية، والدينية من ناحية. ومن ناحية أخرى، على الدعمين، الإقليمي والدولي؛ أي أنها لم تتشكل وفق رؤية وطنية، تضبط علاقتها مع العالم ولخدمة الثورة، فكانت تلك العلاقات لصالح قيادة الفصائل، أو قيادات المعارضة. وهذه سمة عامة للفصائل المعارضة للنظام. وعلى الرغم من محاصرة النظام بلدة داريا سنوات، ولاحقاً الريف الغربي لدمشق، ومن ثم الغوطة الشرقية، فإن فصائل حوران لم تتخذ قراراً بخوض معركة مشتركة معها. وقد عانت من هذه المشكلة كل المدن الثائرة، وكانت نتيجة ذلك إخضاع النظام والروس والإيرانيين لها بالتدريج. طبعاً كانت كل عملية توحيد للفصائل تساهم في خسارة المعارك من النظام والإيرانيين، سيما معركة إخراج النظام من إدلب 2015، ومن درعا ومن أغلب مدن سورية، لكن ذلك تغيّر كليا مع دخول الروس، ولاحقاً مع إنهاء الخلافات بين روسيا وتركيا وتحوّلهما شريكين، وإنشاء مسار أستانة ومناطق التصعيد. وأدت هذه التغيرات والسياسات إلى سقوط حلب، وبعدها سقطت بقية المناطق، وحُوصرت إدلب والغوطة ودرعا بشكل كامل. وبالتالي، إن غياب رؤية وطنية للعمل العسكري، وتنسيق على مستوى سورية، والتدخل الدولي لصالح النظام في حالتي روسيا وأميركا ضد "داعش"، ساعد بشكلٍ حثيث على إسقاط المدن "المتحرّرة" بالتدريج كما ذكر أعلاه.
أكذوبة المصالحات ومناطق خفض التصعيد
استخدمت فكرة المصالحات، ومن ثم فكرة مناطق خفض التصعيد (انظر "خفض التصعيد.. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا"، تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "العربي الجديد"، 4-7-2018)، لإيهام الفصائل بأن هناك تدخلاً إقليمياً ودولياً وسيكون الضامن لانتقال سياسي مقبل، سيما أن كل الأوراق السورية أصبحت بيد الخارج. وقد استخدمت روسيا بالتحديد، وبالشراكة مع إيران وتركيا، ويبدو مع كل داعمي غرفة الموك في الأردن، استخدموا كلهم سياسة الخفض تلك، وتقييد الفصائل بها، بغرضٍ وحيد، هو تقييد العمل المسلح المعارض في كل سورية، ومن ثم إنهاؤه، وهو ما تمّ في الغوطة وريف حمص الشمالي وحماة ودرعا، وسهّل ذلك الشعور بالهزيمة التي منيت بها الفصائل بعد خسارة حلب، وسيطرة مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) على مناطق واسعة من شرق سورية وشمالها، وكذلك تقدّم النظام في أرياف حماة وحلب وإدلب، وكذلك ما حققته روسيا وحلفهم من هزائم لـ "داعش" في أغلبية مناطق وجوده.
وقد تشكلت منطقة خفض التصعيد في درعا عام 2017، إثر لقاء جمع الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في فيتنام، وحُيّدت بموجبه المدينة عن مؤازرة هجوم روسيا والنظام على بقية مناطق سورية، وأخيراً على الغوطة، حيث ضمنت "المنطقة"، أكذوبة الحماية من خطط النظام. وحقيقة الاتفاقيات التي تمت عبر أستانة ولقاء الرئيسين أنها تمّت لغاية واحدة، وهي إخضاع قادة الفصائل للسياسة الروسية، وفصلها بعضها عن بعض، ودحرها لاحقاً، والتخلي عن مناطق خفض التصعيد لاحقاً، وهو ما تحقق بالسيطرة أخيرا على درعا، والبدء بالتحضير لإنهاء إدلب، وإيجاد تسوية كاملة لها بالشراكة مع تركيا، أو تحت السيطرة التركية، وبعد إدلب سيتقرّر مصير الشمال السوري.
وتبيّن أن التخلي الأميركي عن اتفاق خفض التصعيد ترافق مع اتفاق إسرائيلي روسي، يسمح بعودة النظام إلى الحدود، وتصفية الفصائل المعارضة، وإبعاد إيران عن حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقد خيضت معركة درعا أخيرا بكثافة نيرانية من الطيران الروسي، وكادت أن تدمر درعا وبلداتها، وبالتالي فضَّلت الفصائل فيها الموافقة على تسويةٍ لا تُهجرها، وتعيد أهلها المهجّرين إليها. إذاً هنا عوامل عديدة، ساهمت بإنهاء فصائل حوران والقنيطرة، وقد وصل النظام فعلاً إلى الحدود الأردنية، وسيصل إلى حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسيعاود حمايتها كما كان قبل 2011، ووفق اتفاقية إيقاف الاشتباك لعام 1974.
خاتمة
انتهت الثورة في مدينة درعا، لكن أسبابها لم تنتهِ، وأضيفت إليها أسباب جديدة. وأيضاً لم يعد لدى الناس أية ثقة بالعمل العسكري في درعا وفي كل سورية. وبالتالي، هناك ضرورة للعودة إلى العمل السلمي مجدّداً؛ فقد مارست فصائلها تحكّماً وقهراً بالناس وأذلتهم، كما النظام تماماً، ولم تستطع أن تكون بديلاً للنظام وللدولة، وهذا ما دفع بأقسام منها للانحياز لأية تسوية تخرج الفصائل، وتنهي المآسي.
ولكن هل يمكن القول إن الدولة السورية ستستوعب المدن المهزومة وتنهض بها؟ هنا علينا التدقيق؛ فسورية أصبحت دولة محتلة، و"تحرير" واحتلال مدنها تمّ بالطيران الروسي وبالمليشيات الإيرانية وببقايا جيش النظام. وبالتالي أصبحت درعا وسورية أمام جدلية التحرّر والحرية، وهما تختصران آلاف الأزمات التي تكدّست على الأرض السورية.
السياسة الاقتصادية هذه، وهي سياسة عالمية بدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ومن نتائجها رفع أسعار كل المواد في السوق، بعد أن تخلت الدولة السورية عن دعم المواد الأساسية، ولا سيما أسعار المازوت والأعلاف بصفة خاصة؛ وكذلك حينما انفتحت على تركيا، بعد خسارتها لبنان 2005. هذان العاملان بالتحديد أدّيا إلى انهيار الصناعات الأولية والزراعة، فارتفعت أعداد العاطلين من العمل بشكل كبير، وانخفض مستوى دخول الناس، وازدادت طبقة المفقرين، وانخفضت كذلك قيمة العملة؛ هذه من نتائج اللّبرلة، وهي سياساتٌ
مشكلات درعا
درعا التي تُحسب تاريخياً على النظام، ومنها قيادات كبرى في الدولة، ولم تتحرّك في أزمة الثمانينيات ضد النظام. درعا هذه تخلو من أية مصانع، تستوعب العاطلين من العمل، وهي مدينة زراعية بامتياز كذلك، والأهم أن فيها نسبة عالية من المهاجرين إلى دول الخليج ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وهو ما ساهم بنهضةٍ زراعية فيها. الهجرة هذه دلالة أكيدة على غياب التنمية في سورية، وكذلك وجود ملايين السوريين من بقية المدن السورية في كل من لبنان والخليج. على كل حال، هذه أسباب أولية، يضاف إليها العامل العربي 2011؛ فالثورات العربية تُطيح الأنظمة، وبالتالي تشكلت عوامل داخلية وخارجية للبدء بالثورة.
دخلت درعا الثورة كما كل المدن السورية، وهي تكابد أزمات الإفقار والقمع السياسي وافتقاد السوريين أية حقوق وحريات؛ وهناك عامل آخر، حيث مَنعت الدولة حفر الآبار في بعض مناطق درعا، لأنها مناطق حدودية، وهذا جعل وضع الفلاحين كارثياً، حيث يُجبرون على دفع الملايين بين الرشاوى وكُلف الحفر. وقد أدار النظام الأمني الأزمة الثورية 2011، كما كان يفعل طوال مراحل سيطرته على سورية، أي منذ السبعينيات خصوصا، وبشكل متشدّد بعد أزمة الثمانينيات.
وللثورة أسباب عديدة، وقد أشير إليها أعلاه، وبالتالي كانت ستحدث لا محالة. أما شرارتها فقد بدأت في درعا، بعد حكاية الأطفال الذين أرادوا محاكاة ما يحدث في الدول العربية، فكتبوا "خربشاتٍ" على جدران مدرستهم، وفيها تنديد بالنظام الذي مرّر سردية إعلامية سمجة: إن سورية ليست كمصر وتونس. لم ينتبه إلى خطورة الوضع الثوري في سورية، وكان لإجابة أجهزة الأمن بأن ينسوا أطفالهم في المعتقلات، وأن ينجبوا أولاداً غيرهم، أو أن يأتيهم أهل درعا بنسائهم "فيحبّلوهن هم" مفعول السحر! هذا الرد، وعلى خلفية التأزم الشديد، فجّرَ المدينة، ولحقت بها بالتدريج كل بلدات درعا، وكلما كان يزداد القتل والقمع والاعتقال كانت الثورة تشتعل، وتنضم بلدات جديدة، وألوف جدد وعائلات وعشائر بأكملها، ومدن سورية
وعمّت المظاهرات السلمية كل بلدات درعا ومدينتها، وتفاوتت من منطقة إلى أخرى، وهذا حال كل بلدات سورية ومدنها. وكانت هناك رغبة في أن لا تتحول هذه السلمية، في الأشهر الأولى، إلى التسليح؛ لكن النظام، وبعد فشله أمنياً في التعامل معها، كان لا بد له من الانتقال إلى استخدام الجيش، ما أدى به إلى تسهيل تمرير السلاح للمتظاهرين. وعلى الرغم من رفض السلاح، في بادئ الأمر، فإن خيار العسكرة كان طبيعياً في سياق القتل اليومي في الشوارع أو المعتقلات. النظام إذاً أراد ذلك، وكذلك الميل الإسلامي الصاعد حينها أيضاً؛ فهما كانا يرغبان بتحويل الصراع إلى مُسلحٍ، وهو ما حصل لاحقاً، وأدى ذلك للقضاء على الثورة السلمية كلية.
تطوّر الثورة متلازمٌ مع شدّة القمع، وهذا أدّى إلى ظهور مجموعاتٍ صغيرةٍ مسلحة، وقد تكونت من عناصر منشقة عن الجيش، أو مدنيين ممن كان يتظاهر. ساد حينها شعورٌ بأن النظام لن يسقط من دون الصراع المسلح. حدث الأمر عينُه في أغلبية مدن سورية وبلداتها. هو سياقٌ طبيعيٌّ إذاً لتطور الأحداث، حيث رفض النظام التصالح مع الشعب، وتلبية حاجاته، والاعتراف بحقوقه وحرياته، وتشدّد في قمعه وقتله.
سمحت الحماية الخفيفة للمظاهرات بتوسعها وبقائها سلمية ووطنية، وترفض كل ميل طائفي. لم يكن هذا الأمر سارّاً، لا للإسلامين ولا للنظام. هنا أفرج النظام عن نحو ألفٍ من الجهاديين من سجونه في الشهر السادس من 2011، وكذلك فُتحت الحدود لدخول أمراء من "القاعدة" من الأردن وتركيا والعراق. ودفعت شدّة القمع الناس إلى أن يتقبلوا الوافدين الجدد للدفاع عنهم، ولم يكن الأمر تعبيراً عن رغبة في أسلمة الثورة، أو تبني مشروعٍ جهادي بأي حال.
التنظيمات الجهادية .. وتطورات نوعية
بدأت جبهة النصرة، مع العام 2012، تشكل خلاياها، وكذا أحرار الشام، وأخيراً منظمات متشددة وجهادية أكثر فأكثر، وقد انضوت ضمن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقاً. وكانت فُتحت لجبهة النصرة والتشكيلات المماثلة الحدود والسجون والسلاح والمال. وقبالة ذلك كان الاعتقال والقتل يلاحق شباب التنسيقيات ومجموعات الجيش الحر. وهنا يمكن ملاحظة كيفية تصفية النظام وإيران وروسيا كل فصائل الجيش الحر أو الفصائل الإسلامية، وأخيراً يتم الانتهاء من التنظيمات الجهادية، مثل داعش وجبهة النصرة. فلنلاحظ في درعا أنه لم يتم الاقتراب من جيش خالد بن الوليد (تشكل في 2016، من لواء شهداء اليرموك، وجيش الجهاد، وحركة المثنى الإسلامية) حتى بعد توقيع الاتفاق الأولي لتسليم المدينة في 7-7-2018. وما زالت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) تتحكم بمدينة إدلب.
وتشكلت في العام 2014 الجبهة الجنوبية، وهي تضم عدداً كبيراً من الفصائل (54-58)، ودُعمت من غرفة الموك التي تشكلت عام 2014 في الأردن، وهي غرفة تمويل وتسليح وتدريب للجبهة، وكذلك غرفة للاستخبارات العالمية، وتشرف عليها بشكل أساسي أميركا والأردن، وهناك ممثلون لدول كثيرة فيها. هي غرفة محسوبة أساسا لصالح الأميركان، وطبعاً هناك تنسيق إسرائيلي أميركي يتعلق بكيفية السيطرة على تلك الفصائل؛ فهي استطاعت السيطرة على الحدود، مع كل من حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي والأردن. ولهذا كان لا بد من معرفة كل ما يخص هذه الفصائل وضبط عملياتها وإخضاعها باستمرار، وقد أصبحت في 2015 تتلقى الأوامر من "الموك"، ومن يرفض منها تمنع عنه المساعدات. وكذلك أصبحت "الموك" تتدخل في السماح بشن المعارك أو إيقافها أو تغيير اتجاهها، وهكذا. ما رفضت "الموك" تسليمه، كما حال كل دول "الدعم" للفصائل، هي الصواريخ التي في مقدورها إسقاط الطائرات، وهذا ما سهّل انتقال النظام إلى استخدام الطيران لقصف المدن وتدميرها، وكذلك فعلت روسيا، حيث تدخلت عام 2015 جويا، وحققت الانتصارات بسبب غياب الصواريخ تحديدا.
مشكلات في الفصائل
تكمن مشكلة الفصائل المسلحة في سورية في افتقادها قيادة سياسية تعبر عنها، وتوجهها وتحدّد لها استراتيجيتها؛ فلم يستطع المجلس الوطني السوري، ولا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولا سواهما، أن يكون قيادتها، كما لم يستطع ذلك في مرحلة الثورة السلمية. وهناك غياب مرجعية قانونية ضابطة لكل ممارسات تلك الفصائل (ما سمح للجهاديين بتشكيل محاكمهم الشرعية)، وقد تشكلت على أساس الولاءات العائلية، والدينية من ناحية. ومن ناحية أخرى، على الدعمين، الإقليمي والدولي؛ أي أنها لم تتشكل وفق رؤية وطنية، تضبط علاقتها مع العالم ولخدمة الثورة، فكانت تلك العلاقات لصالح قيادة الفصائل، أو قيادات المعارضة. وهذه سمة عامة للفصائل المعارضة للنظام. وعلى الرغم من محاصرة النظام بلدة داريا سنوات، ولاحقاً الريف الغربي لدمشق، ومن ثم الغوطة الشرقية، فإن فصائل حوران لم تتخذ قراراً بخوض معركة مشتركة معها. وقد عانت من هذه المشكلة كل المدن الثائرة، وكانت نتيجة ذلك إخضاع النظام والروس والإيرانيين لها بالتدريج. طبعاً كانت كل عملية توحيد للفصائل تساهم في خسارة المعارك من النظام والإيرانيين، سيما معركة إخراج النظام من إدلب 2015، ومن درعا ومن أغلب مدن سورية، لكن ذلك تغيّر كليا مع دخول الروس، ولاحقاً مع إنهاء الخلافات بين روسيا وتركيا وتحوّلهما شريكين، وإنشاء مسار أستانة ومناطق التصعيد. وأدت هذه التغيرات والسياسات إلى سقوط حلب، وبعدها سقطت بقية المناطق، وحُوصرت إدلب والغوطة ودرعا بشكل كامل. وبالتالي، إن غياب رؤية وطنية للعمل العسكري، وتنسيق على مستوى سورية، والتدخل الدولي لصالح النظام في حالتي روسيا وأميركا ضد "داعش"، ساعد بشكلٍ حثيث على إسقاط المدن "المتحرّرة" بالتدريج كما ذكر أعلاه.
أكذوبة المصالحات ومناطق خفض التصعيد
استخدمت فكرة المصالحات، ومن ثم فكرة مناطق خفض التصعيد (انظر "خفض التصعيد.. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا"، تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "العربي الجديد"، 4-7-2018)، لإيهام الفصائل بأن هناك تدخلاً إقليمياً ودولياً وسيكون الضامن لانتقال سياسي مقبل، سيما أن كل الأوراق السورية أصبحت بيد الخارج. وقد استخدمت روسيا بالتحديد، وبالشراكة مع إيران وتركيا، ويبدو مع كل داعمي غرفة الموك في الأردن، استخدموا كلهم سياسة الخفض تلك، وتقييد الفصائل بها، بغرضٍ وحيد، هو تقييد العمل المسلح المعارض في كل سورية، ومن ثم إنهاؤه، وهو ما تمّ في الغوطة وريف حمص الشمالي وحماة ودرعا، وسهّل ذلك الشعور بالهزيمة التي منيت بها الفصائل بعد خسارة حلب، وسيطرة مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) على مناطق واسعة من شرق سورية وشمالها، وكذلك تقدّم النظام في أرياف حماة وحلب وإدلب، وكذلك ما حققته روسيا وحلفهم من هزائم لـ "داعش" في أغلبية مناطق وجوده.
وقد تشكلت منطقة خفض التصعيد في درعا عام 2017، إثر لقاء جمع الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في فيتنام، وحُيّدت بموجبه المدينة عن مؤازرة هجوم روسيا والنظام على بقية مناطق سورية، وأخيراً على الغوطة، حيث ضمنت "المنطقة"، أكذوبة الحماية من خطط النظام. وحقيقة الاتفاقيات التي تمت عبر أستانة ولقاء الرئيسين أنها تمّت لغاية واحدة، وهي إخضاع قادة الفصائل للسياسة الروسية، وفصلها بعضها عن بعض، ودحرها لاحقاً، والتخلي عن مناطق خفض التصعيد لاحقاً، وهو ما تحقق بالسيطرة أخيرا على درعا، والبدء بالتحضير لإنهاء إدلب، وإيجاد تسوية كاملة لها بالشراكة مع تركيا، أو تحت السيطرة التركية، وبعد إدلب سيتقرّر مصير الشمال السوري.
وتبيّن أن التخلي الأميركي عن اتفاق خفض التصعيد ترافق مع اتفاق إسرائيلي روسي، يسمح بعودة النظام إلى الحدود، وتصفية الفصائل المعارضة، وإبعاد إيران عن حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقد خيضت معركة درعا أخيرا بكثافة نيرانية من الطيران الروسي، وكادت أن تدمر درعا وبلداتها، وبالتالي فضَّلت الفصائل فيها الموافقة على تسويةٍ لا تُهجرها، وتعيد أهلها المهجّرين إليها. إذاً هنا عوامل عديدة، ساهمت بإنهاء فصائل حوران والقنيطرة، وقد وصل النظام فعلاً إلى الحدود الأردنية، وسيصل إلى حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسيعاود حمايتها كما كان قبل 2011، ووفق اتفاقية إيقاف الاشتباك لعام 1974.
خاتمة
انتهت الثورة في مدينة درعا، لكن أسبابها لم تنتهِ، وأضيفت إليها أسباب جديدة. وأيضاً لم يعد لدى الناس أية ثقة بالعمل العسكري في درعا وفي كل سورية. وبالتالي، هناك ضرورة للعودة إلى العمل السلمي مجدّداً؛ فقد مارست فصائلها تحكّماً وقهراً بالناس وأذلتهم، كما النظام تماماً، ولم تستطع أن تكون بديلاً للنظام وللدولة، وهذا ما دفع بأقسام منها للانحياز لأية تسوية تخرج الفصائل، وتنهي المآسي.
ولكن هل يمكن القول إن الدولة السورية ستستوعب المدن المهزومة وتنهض بها؟ هنا علينا التدقيق؛ فسورية أصبحت دولة محتلة، و"تحرير" واحتلال مدنها تمّ بالطيران الروسي وبالمليشيات الإيرانية وببقايا جيش النظام. وبالتالي أصبحت درعا وسورية أمام جدلية التحرّر والحرية، وهما تختصران آلاف الأزمات التي تكدّست على الأرض السورية.