والواقع أن سيطرة النظام على المحافظة غير مكتملة من الناحية الفعلية، ذلك أنه بموجب الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع فصائل المعارضة لم يتم سحب السلاح الخفيف من بعض تلك الفصائل، فيما ما زالت عناصر الشرطة العسكرية الروسية الضامنة للاتفاق منتشرة في أنحاء مختلفة من المحافظة. وكثيراً ما تصطدم أجهزة النظام الأمنية والعسكرية ببعض الضوابط التي تضعها الشرطة الروسية لحماية الأهالي وعناصر الفصائل السابقين من بطش قوات النظام، التي ما زال ممنوعاً عليها الدخول إلى العديد من المناطق في درعا، لكنها تتحكم بالحواجز والطرق بين القرى والبلدات، وبالطريق الدولي باتجاه دمشق. وعلى هذه الطرق، تقوم غالباً بعمليات الاعتقال للأشخاص المطلوبين لديها.
وقد أجرى مسؤولو النظام في الآونة الأخيرة سلسلة زيارات متتالية للمحافظة. وكان آخر الواصلين مفتي النظام أحمد حسون، الذي زار مدينة إنخل بريف درعا، برفقة أمين فرع حزب البعث في درعا حسين الرفاعي وعدد من المسؤولين الحزبيين، الذين التقوا مع وجهاء المدينة، ضمن احتفالية كان شعارها "صالحنا بالأمس ونسامح اليوم وسنبني غداً". ومما قاله المفتي وأمين فرع الحزب في كلمتيهما إن "درعا عرين وطني غير قابل للتآمر، وستكون دوماً قلعة للبعث".
وسبق حسون إلى المحافظة رئيس فرع المخابرات الجوية التابع للنظام جميل الحسن، مع عدد من ضباطه، والذي قالت وسائل اعلام مقرّبة من النظام إنه "استمع إلى مطالب الأهالي التي شملت 13 مطلباً، أبرزها الكشف عن مصير المفقودين في سجون النظام، والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين". إلا أن الحسن، وبحسب مصادر محلية، دعا الأهالي في درعا إلى أن "ينسوا المطالبة بأبنائهم الذين تم اعتقالهم قبل عام 2014"، في إشارة إلى موت العديد منهم في سجون النظام، الأمر الذي سبب توتراً بين المجتمعين. وشملت جولة الحسن أربع مناطق في المحافظة، هي الكرك الشرقي، ونوى، وداعل، والغارية الشرقية، برفقة عدد من ضباط قوات النظام، بينهم العقيد عدنان الأسد، والعقيد رغيد محسن. ولم يعلن النظام السوري عن زيارة الحسن إلى درعا، والذي يقل ظهوره في الإعلام ويقتصر على الظهور بين العام والآخر.
ويعتبر الحسن من كبار مجرمي النظام السوري، ويترأس فرع "المخابرات الجوية" المعروف بقتل مئات المواطنين ومعتقلي الرأي تحت التعذيب، وهو يخضع لعقوبات من الاتحاد الأوروبي، وصدرت أخيراً مذكرة توقيف دولية بحقه بعد شكوى جنائية قدمها معتقلون سابقون إلى الادعاء العام الألماني. كما أصدر الادعاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية بحقه إلى جانب مدير الأمن القومي علي مملوك، ورئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية عبد السلام محمود.
وتلا زيارة الحسن مباشرة خروج تظاهرة مؤيدة للنظام السوري في مدينة درعا، كانت الأولى من نوعها منذ سيطرة قوات النظام على المدينة. كما خرجت تظاهرات مماثلة في عدد من البلدات. وجابت التظاهرة التي خرجت عند منتصف الشهر الحالي بمناسبة ما يسمى "الحركة التصحيحية"، أي ذكرى استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سورية عام 1970، شوارع المدينة انطلاقا من ساحة البانوراما. ولاحظ ناشطون أن أغلب المشاركين بالتظاهرة كانوا من طلاب المدارس الإعدادية والثانوية والجامعات والموظفين في المؤسسات التابعة للنظام، وسط تخوف الموظفين من الفصل والملاحقة الأمنية في حال عدم المشاركة.
وترافقت هذه التحركات من جانب مسؤولي النظام مع حركة اعتقالات نشطة وشبه يومية لأبناء المحافظة من جانب قوات النظام وأجهزته الأمنية المختلفة، طاولت بشكل خاص شخصيات عملت سابقاً في فصائل المعارضة العسكرية والمدنية رغم دخولها في اتفاق التسوية. وشهدت الأيام الأخيرة اعتقال عشرات الشبان في درعا وريفها بهدف التجنيد الإجباري، في وقت نشر فيه النظام قائمة بأسماء آلاف المطلوبين على الفروع والحواجز الأمنية المنتشرة في المحافظة.
وقال الناشط محمد الحوراني لـ"العربي الجديد"، إن "الاعتقالات طاولت عدداً من عناصر الجيش السوري الحر سابقاً، وذلك على الرغم من إجرائهم مصالحات وأخذهم ضمانات بعدم الاعتقال من الشرطة العسكرية الروسية المنتشرة في ريف درعا". وحسب "مكتب توثيق الشهداء" في درعا، فإنه "جرى اعتقال عشرة أشخاص خلال محاولتهم الخروج إلى محافظة إدلب في الشمال بطرق غير نظامية". وكان النظام قد أصدر قراراً بالحجز على ممتلكات أعضاء سابقين بمنظمات المجتمع المدني أو الحكومة السورية المؤقتة في محافظة درعا. وقالت مصادره إن "قرار الحجز جاء بتهمة ثبوت التورط بالأعمال الإرهابية السائدة في القُطر".
وحسب مصادر مختلفة، فإن "النظام يدفع موالين له أو مواطنين ممن يستطيع التواصل معهم ويخشون سطوته، إلى رفع دعاوى مدنية أمام محاكم النظام ضد قادة الفصائل والقادة العسكريين وغير العسكريين، الذين عملوا في صفوف المعارضة خلال السنوات الماضية بتهم مختلفة، تشمل جرائم قتل وسرقة ممتلكات خاصة أو تدميرها".
ونقلت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام، عن المحامي العام في درعا سعود المحمد، التابع للنظام، قوله إن "عدد الشكاوى في هذا الإطار ارتفع أكثر من 15 ضعفاً، عما كان عليه سابقاً"، مشيراً إلى أن "المصالحات التي عقدها النظام مع الفصائل في درعا، لا تعني إسقاط التهم الموجهة ضدهم بدعاوى شخصية".
وتركزت عمليات الاعتقال على شخصيات عملت سابقاً في "الجيش الحر" ومؤسسات المعارضة. وبلغ عدد القادة الذين اعتقلهم النظام حتى اليوم أكثر من 20 قيادياً، من بينهم سليمان قداح، القيادي في فصيل "فلوجة حوران"، والذي تم اعتقاله في العاصمة دمشق، وفادي العاسمي، القيادي في "جيش الثورة"، ومالك الرغش، القيادي العسكري في مدينة إنخل.
ولعل ما زاد من مخاوف النظام بشأن مدى إحكام قبضته على المحافظة، بروز ما يسمى بـ"المقاومة الشعبية" في المحافظة، والتي وجهت، يوم الخميس الماضي، رسالة لأهالي حوران، مؤكدة على "الثأر للشهداء ومقاومة نظام الأسد حتى إسقاطه".
وجاء في بيان لـ"المقاومة الشعبية": "لن ننسى كم قدمنا من شهداء وجرحى ومعتقلين بهدف إسقاط النظام المجرم التسلطي واللاشرعي، من أجل تمكين شعبنا السوري بمكوناته المختلفة من بناء دولته المدنية الديمقراطية، وتحقيق تطلعاته في الحرية والمساواة والكرامة واحترام حقوق الإنسان". وأضاف البيان أنه "كلنا نعلم أنه وفي سبيل القضاء على هذا النظام المجرم لا بد من القضاء على أذنابه في المنطقة، فلن نكرر خطأ الفصائل السابقة في هذا الشأن".
وكانت "المقاومة الشعبية" في الجنوب السوري قد أعلنت عن نفسها رسمياً قبل أيام عدة، موضحةً أنّها تعمل لـ"ردع قوات الأسد والمليشيات الموالية لها، في ظل استمرارها بالاعتقالات والانتهاكات بحق مناطق الجنوب السوري". ونفذت "المقاومة الشعبية في درعا" عمليات عسكرية عدة، تسببت الأخيرة منها في مقتل ثلاثة عناصر وجرح آخرين من قوات النظام في ريف المحافظة الشرقي. واستهدفت العملية حاجزاً لفرع "الأمن العسكري" بين منطقتي الكرك والغارية، كان يمارس عمليات سلب وسرقة للسيارات المارة هناك. كما قُتل خمسة عناصر، بينهم ضابط، بعد تعرض حاجز المستشفى لهجوم في مدينة جاسم في ريف درعا الغربي. وتشكل هذه الظاهرة توتراً للنظام خشية اتساعها لتشمل مناطق جديدة، خصوصاً في ظل انتشار السلاح الخفيف بأيدي آلاف المقاتلين السابقين، ممّن نصّت اتفاقات المصالحة قبل أربعة أشهر على احتفاظهم به طيلة الأشهر الستة التالية.
كما تواردت أنباء عن أن الروس حلوا "الفيلق الخامس" في المحافظة بسبب رفض الكثير من عناصر المعارضة ممن انضموا للفيلق المشاركة في معارك الشمال السوري. لكن مصادر محلية ذكرت أنه "تمّ حلّ الفيلق في المنطقة الغربية فقط، وما زال موجوداً في المنطقة الشرقية لمحافظة درعا، حيث شارك عناصره في قتال تنظيم داعش شرقي السويداء".
وقبل أيام هدد رئيس فرع مليشيا "الأمن العسكري" في درعا لؤي العلي، عناصر فصائل المصالحات في غربي درعا، بسحب سلاحهم الفردي، وذلك قبل انتهاء مدّة الأشهر الستة المذكورة في الاتفاق مع الروس، بسبب رفضهم التوجّه للقتال في الشمال السوري قبل أشهر، وكذلك القتال في ريف السويداء ضد تنظيم "داعش".
كما ترافقت العمليات العسكرية مع النظام مع تجدد الكتابة على الجدران لعبارات مناهضة للنظام على نحو يذكر بالكتابات التي أشعلت الثورة السورية عام 2011. وقال الناشط محمد الحوراني، لـ"العربي الجديد"، إن "ناشطين معارضين قاموا بكتابة عبارات ضد النظام في العديد من القرى بريف درعا الشرقي". وكتب الناشطون المجهولون عبارات: "عاشت الثورة حرة أبية، حرية وبس، يسقط بشار، يسقط حزب البعثية".
وفي بلدة الكرك الشرقي، كُتبت عبارة "أحرار الكرك الشرقي"، مع العبارات الموجهة ضد النظام. ويأتي ذلك عقب يومين من قيام مجهولين بإطلاق النار على حاجز تابع لقوات النظام في البلدة، لكن دون إيقاع إصابات. كما ظهرت كتابات ضد النظام في بلدة المْزيرِيب بريف درعا الغربي في بعض الشوارع والمدارس، منها "إجاك الدور يا دكتور" و"الشعب يريد إسقاط النظام" و"الموت ولا المذلة". ورأى ناشطون أن كل هذه التطورات، شكلت خلفية تحركات مسؤولي النظام المكثفة تجاه المحافظة، خاصة مع وجود مقاتلين سابقين في المعارضة، وانعدام الثقة مع معظم الأهالي.