تختلف نظرة الناس إلى يوم الحادي عشر من فبراير، وخاصة إن أرادوا الحكم عليه بعد مرور أربع سنوات. فهناك من يبكي على اللبن المسكوب، ويندم على تركه ميدان التحرير قبل تحقيق كل أهداف ومطالب الثورة. وهناك من يراه الخديعة الكبرى، وأن مشهد التنحي ما هو إلا مشهد تمثيلي. وهناك من يراه المؤامرة العظمى، على الوطن، الثورة، الإسلام، كلُ حسب تفسيره للمؤامرة. وهناك الحالم الذي يحلم بمشهد الوحدة الذي كان في الميدان في 11 فبراير وما سبقه من أيام، ويتمنى ويسعى ويطلب العودة إلى ذاك الزمان.
الحقيقة أنني لا أنتمي إلى أي من السابقين، وأتعامل مع هذه الذكرى بمنطق مختلف. أذكر أنني لم أغادر الميدان إلا يوم 13 فبراير، إذ مكثت يومين أُتابع الجماهير وأتواصل مع القوى المختلفة. لقد كان قرار الجماهير واضحاً، وهو الرحيل من الميادين مع رحيل مبارك، ولم يكن في وسع ائتلاف شباب الثورة وكل القوى السياسية، إلا أن تخضع لرغبة الجماهير، فهذه الجماهير هي التى صنعت الثورة، وأي حديث عن إمكانية الاستمرار وقتها، هو حديث نظري بحت.
أما عن قصة الخدعة والمؤامرة، فأنا لا أؤمن بهما، وأرى أن كل ما حدث في 11 فبراير وما تلاه هو نتيجة لفهمنا ولأفكارنا ولأفعالنا ولأخطائنا، والجمع هنا يشمل الكل: الشعب، شباب الثورة، القوى السياسية المختلفة. نعم كل ما حدث وما وصلنا إليه الآن هو نتيجة لفعلنا، وهذا هو الأهم، أي أن ندرس ما حدث في السنوات الأربع الماضية لنعرف أخطاءنا، وكيف يمكن تداركها في المستقبل.
أما عن الداعين إلى العودة إلى يوم 11 فبراير، وأولئك الحالمين بالتوحد، فأنا معهم في حلمهم، وأراه جزءا من بناء المستقبل، ولكن فكرة العودة إلى 11 فبراير، وتناسي ما حدث في أربع سنوات، ليس أمراً منطقياً. فمن ناحية نحن لم نعد في فترة انتقالية، ومن ناحية أخرى من الصعب على النفس والعقل البشريين تناسي أحداث أربع سنوات وتصرفات الفصائل السياسية المختلفة فيها وما اقترفته آياديهم.
إذن، تعالوا نتجاوز تفسيراتنا المختلفة لما حدث، ونتوقف عن البحث فيما حدث في اللحظات الأخيرة، ولنترك للزمن مهمة الكشف عنها، ولنتعامل مع ذكرى الحدث بالحقيقة الواقعة التي سجلها التاريخ، ولن تتغير مهما حدث، وهي أنه في الحادي عشر من فبراير، رحل محمد حسني مبارك عن الحكم، وإن اختُلِف في مسمى الرحيل، خُلع، تنحى، أُجبر، ولكن في النهاية رحل عن الحكم بثورة شعبية، رحل بينما كان الخلاف بين أهل الحكم في مصر على من سيحكم مصر في صيف 2011، هل مبارك الأب، أم مبارك الابن؟ فإذا بصيف 2011 يأتي ومبارك وابناه في السجن. نعم رحل مبارك ولم يرحل كل نظامه، وجزء من نظامه يحكم مصر الآن، ولكنه رحل بثورة. ونعم بعد أربع سنوات خرج مبارك وابناه من السجن، ولكنهم أيضاً خرجوا من الحكم.
وهذا هو الدرس الذى يجب أن يعيه الجميع، وأول من عليه أن يتعلم هم الحكام العرب، فمهما تجبر الحاكم وقويت قبضته، وسبَّح الإعلام بحمده، وحكم القضاء بحكمه، وارتكز على قوة بوليسية باطشة و"مخابرات تلمح حتى اللاأشياء"، بتعبير الشاعر أحمد مطر، وحتى وإن كان هذا الحاكم من قلب المؤسسة العسكرية، وأحد قادتها، وعلى كتفه علقت كل الرتب والنياشين، كل غضب الشعب الذي يتحمل ذلك لن يحميه من لوقتٍ ما القهر والظلم والسجن والجوع. فإذا غضب الشعب، فثق أيها الحاكم العربي أنك ستصير إما مخلوعاً أو معزولاً أو مطروداً أو مقبوراً.
أما بقية الدرس، فهو للشعوب التي يجب أن تعي أنها قادرة على الوقوف فى وجه أي حاكم مستبدّ، وأنها قادرة على إنهاء حكمه. ولن ينفع هذا الحاكم حينها مؤسساته ولا قوى إقليمية تسانده، ولا حسابات سياسية غربية. وعلى كل صاحب رأي حر أن يغذي هذا الوعي لدى جماهير الشعوب العربية.
هذا هو الدرس الأهم في حديث 11 فبراير.