درس بريطاني

09 مايو 2016
+ الخط -

الديمقراطية تُعَلِّم. وهي، عندما لا تكون في خطر، تقدِّم دروساً تفاجىء فيها نفسها. ربما لا تفاجئها، تماماً، لأنَّ من طبْع الديمقراطية أن تتيح الاحتمال لبروز نقيض السائد وعكسه. فالناس ليسوا "على قلب رجل واحد"، وإلا ما كانوا شعوباً وأمماً وثقافات. في الديكتاتورية يجتمع الناس (في الظاهر) على قلب رجل واحد: الحاكم الفرد. الذين يعيشون تحت سقف الديمقراطية لا يمكنهم العيش تحت سقف آخر، لو رفع أنبل الشعارات وأقدسها. وعندما أقول الديمقراطية تُعَلِّم وتقدِّم دروساً، فأنا أعني، بالطبع، ما جرى في لندن قبل أيام: انتخاب صادق أمين خان، ابن المهاجر الباكستاني، عمدةً لأكبر المدن الأوروبية وأكثرها عراقة. يا له من درسٍ في وقتٍ يحتاج العالم (وبالأخص عالمنا العربي) إلى درسٍ كهذا. لا أتحدَّث عن الدين، على الرغم من أن المفلسين حضارياً هم الذين يزجّونه في صراعات المصالح البشرية، ولا أتحدّث عن العرق، على الرغم من أنه أحد أسلحة المفلسين (إياهم)، بل أتحدّث عن "حالة" صادق خان الذي "تنطَّح" إلى منصب يُنظرُ إليه، في بريطانيا، باعتباره ممراً إلى 10 داوننغ ستريت، مقرّ رئاسة الوزراء، وطلع في هذا التنطُّح "رأساً".

هذه هي "حالة" صادق خان: إنه ابن مهاجر باكستاني، كان يعمل سائق حافلة عمومية (باص لندن الأحمر). لم يذهب إلى مدرسة خاصة، تقود، بالضرورة، إلى جامعات النخبة البريطانية التي تتولى، عادة، حكم البلاد، بل تردَّد إلى مدارس الحكومة، والتحق بجامعة "عادية" في شمال لندن. عمل محامياً في مجال حقوق الإنسان، ثم ما لبث أن دخل المجال السياسي، من خلال ترشحه عن حزب العمال البريطاني، وفاز بمقعد في مجلس العموم البريطاني الذي ينقسم، باعتباره مسرحاً للديمقراطية، إلى حكومتين متواجهتين، واحدة حاكمة فعلاً، والثانية يسمّونها حكومة الظل. وفي واحدةٍ من حكومات الظل العمالية كان صادق خان وزيراً.

وفي "حالة" خان، عمدة لندن الجديد، نذكر أيضاً: أنه ترشح في مواجهة نقيضه في كلِّ شيء. هو "ملوَّن" وخصمه أبيض. هو من منبت فقير. وخصمه ابن لواحد من أكبر أثرياء بريطانيا. هو ذو خلفية إسلامية. خصمه ذو خلفية يهودية. هو ابن مهاجر. خصمه ينتمي إلى النخبة البريطاينة كابراً عن كابر، كما تقول العرب. هو مرشح حزب متهم بالعداء للسامية (هذه تهمة قاتلة في بريطانيا، بل في أوروبا). خصمه مرشح الحزب الحاكم، ويلقى دعم العمدة السابق بوريس جونسون، الذي يتمتع بشخصية كارزمية، وكان له نجاحات، ملحوظة، في إدارة أمور العاصمة البريطانية. وفي خصوص البند الأخير، وجَّهت لندن صفعة قاسية لمن حاولوا اغتيال شخصية صادق خان السياسية، بربطه بإسلاميي لندن المتشدّدين، أو بحزبه المتَّهم بمعاداة السياسات الإسرائيلية (= معاداة السامية) في عهد رئيسه جيرمي كوربن.

لم تنظر لندن، هذه المدينة المتعددة الثقافات والوجوه، إلى سحنة صادق خان، ولكن إلى برنامجه الانتخابي. وهذا يجرّنا إلى مسألة المواطنة التي أشار إليها الدكتور عزمي بشارة في هذا المنبر، السبت الماضي، في خصوص خان نفسه. إنها المواطنة. انتظام الناس على أساس مصالحهم وحقوقهم وعيشهم، وليس على أساس عرقهم أو دينهم. فالرأي، عندي، أن المواطنة، المتعدّدة الثقافة، هي التي انتصرت في "معركة لندن". البرنامج الانتخابي، ذو الطابع الخدمي والمصلحي، هو الذي قاد صادق خان إلى هذا المنصب العام الرفيع.

لاحظوا جرأة برنامج هذا المرشح العمالي البريطاني. ففي وقتٍ تتصاعد فيه حملة بريطانية، واسعة النطاق، للخروج من الاتحاد الأوروبي، رفع خان شعاراً معاكساً: البقاء في الاتحاد. إنه ليس أفضل لبريطانيا ككل، فقط، بل جيد، خصوصاً للندن. قبل شهر، تقريباً، من الاستفتاء على مصير بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، تقول لندن لأوروبا، والعالم، من خلال انتخاب صادق أمين خان، إنها لا تريد الانعزال. في بريطانيا، أكثر من أي بلد أوروبي، يستطيع ابن مهاجر باكستاني أن يقول إنه بريطاني. لأنَّ "البريطانيِّة" ليست عرقاً، بل صيغة حكمٍ تجمع أعراقاً متعدّدة. تذكَّروا جيسكار ديستان عندما قال إنَّ الفرنسي هو فرنسيُّ الدم. هنا، لا دم بريطانيِّاً، لحسن الحظ.

 

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن