في الفترة الأخيرة، ترسخت صورة عن مدينة درسدن الألمانية في أذهان كثيرين. هؤلاء باتوا يعتبرونها مدينة حركة "بيغيدا" اليمينية المتطرفة... مدينة التعصب وكره الأجانب أكانوا مهاجرين سابقين أم طالبي لجوء جدداً.
من زار مدينة درسدن عاصمة ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا، أو عاش فيها قبل ظهور حركة "بيغيدا" القومية المتطرفة، يعرف تماماً أنّ هذه المدينة مدينة الملوك بلا منازع. كذلك، يعتبر دار الأوبرا والمتحف في درسدن ذات التاريخ المشرق في عصر النهضة، من أهم الدور الثقافية في ألمانيا. مع ذلك، باتت خلال الفترة الأخيرة وكأنها ترتدي ثوباً جديداً أو تريد أن تصنع لنفسها مكاناً جديداً على خريطة المدن الرافضة للاندماج والأجانب على حدّ سواء. لكن لماذا اختيرت درسدن بالذات أو اختارت لنفسها هذه الصورة؟ وهل هي في الحقيقة أكثر تعصباً من مدن ألمانية أخرى؟
"داعش" ونازيون
يحاول العضو في حزب الخضر سيبستيان هيوشل، المنسق الرسمي لبرامج الاندماج في ظل الديمقراطية، أن يفسر لـ"العربي الجديد" الأسباب: "لماذا درسدن؟ لأنّها أولاً قريبة جغرافياً من الدول الرافضة لوجود اللاجئين رفضاً تاماً مثل جمهورية التشيك وبولندا. لا بدّ من الإشارة كذلك، إلى أنّ اليسار موجود في درسدن، لكنّ ذلك لا يعفي أهل المدينة، فأهل درسدن أنفسهم محافظون وبشدة، ما جعل اليسار فيها ليس بقوة الموجود في لايبزيغ المدينة الجارة التي وضع اليسار فيها حداً واضحاً لتمدد حركة بيغيدا. ففي درسدن يعجز اليسار عن التصدي لبيغيدا حتى الآن". يشير هيوشل كذلك إلى مشكلة البطالة التي تعاني منها سكسونيا ككلّ، والتي جعلت الكثير من الشباب يتجه إلى حركات التعصب للتعبير عن غضبه.
يدرس الطالب توماس هالير العلوم الإسلامية ويتحدث العربية. يؤكد على نقطة هيوشل الأخيرة بالذات، ويجري مقارنة بين شباب "بيغيدا" وشباب "داعش"، فيقول: "تماماً كما يتجند الشباب العربي في صفوف داعش، بحثاً عن عمل وهوية أو للتعبير عن الذات والبحث عن الاعتراف، يفعل الشباب النازي الذي ينتمي إلى بيغيدا أو يؤيد الحزب البديل اليميني المتطرف. فهو يقول: نحن هنا. ويفرغ مشكلته في البطالة وعدم توافر فرص العمل في الانخراط بمثل هذه المجموعات للتعبير عن أزماته". يتابع: "كما أنّ الكثير من المنتمين إلى داعش ليسوا على اطلاع واسع على الإسلام، فكذلك المتعلقين بالفكر النازي أو المنتمين إلى أحد أحزابه أو حركاته، فهم ليسوا على اطلاع واسع وحقيقي وعميق بالفكر النازي وتاريخه".
أما الحائزة على الماجستير في علم اللاهوت والتاريخ كريستين إينغيلهارتو، العاملة في مجال الإرشاد، فتركز على أنّ مدينة درسدن وأهلها لم يتعافوا من جراح الماضي: "هذه المدينة التاريخية المهمة قصفها البريطانيون في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية بالقنابل الفوسفورية، ما تسبب بحرائق كبيرة وأضرار في إرث المدينة ومواقعها التاريخية. ما جرى يومها لم يعالج بشكل عميق وحقيقي. لم يُعمل على موضوع النازية وجرائمها في درسدن، فأهل المدينة استمروا في الشعور أنّهم ضحايا الحرب".
أما بخصوص دور وسائل الإعلام في تغطية الأحداث في المدينة ومدى موضوعيتها، فتقول إينغيلهارتو: "وسائل الإعلام هنا تعمل كما في جميع العالم، هناك محطات تنقل تقارير موضوعية، لكن في النهاية يسمع الناس ويتأثرون بما يرغبون به".
بدوره، يقول الصحافي فرانك بنيامين: "وسائل الإعلام في الأصل مسيطر عليها في ألمانيا عبر صحافيي ألمانيا الغربية. الإعلام في ألمانيا الشرقية خاضع تماماً لغرب ألمانيا. لذلك، يشعر كثيرون في الشرق بالغبن نتيجة انعدام الرؤية الصحافية والإعلامية وعدم وجود كوادر من مناطقهم". يفسر: "ذلك معروف منذ انهيار جدار برلين. وبذلك، فإنّها مشكلة في من ينقل الصورة وكيف ينقلها؟ وهل لديه المعرفة الكاملة بما يجري؟ يبدو لي واضحاً عند طرح الصحافيين الأسئلة، أنّهم ليسوا على معرفة بحقيقة الوضع في ألمانيا الشرقية السابقة. فهم يقولون مثلاً إنّ الألمان في درسدن ليس لهم اتصال سابق مع الأجانب، لكنّهم يغفلون عن كون ألمانيا الشرقية بكاملها استجلبت قوة عاملة أجنبية بعد الحرب العالمية الثانية تماماً كالغربية. كذلك، يقولون إنّ مدارس ألمانيا الشرقية لم تدرّس تاريخ النازية، لكنّ شبابنا زاروا المحارق اليهودية ودرسنا التاريخ النازي بشكل عميق".
بذلك، يشير إلى أنّ ما يجري في درسدن ليس معاداة للأجانب بقدر ما هو ردّ فعل غاضب على إهمال المدينة نفسها الذي امتد منذ هدم الجدار (1989) حتى اليوم.
المدينة الضحية
في هذا الإطار، يؤكد كثر أنّ درسدن لطالما شعرت أنّها ضحية. يعتبرون أنّها أهملت ولم تنل نصيبها الذي تستحقه كمدينة للملوك، وكان هذا الشعور قوياً أيضاً في عهد ألمانيا الشرقية، فقد كان أهل المدينة يشعرون أنّ برلين كعاصمة لألمانيا الشرقية أهم من درسدن وهذا ما كان يضاعف من شعور الضحية أيضاً. حماسهم للرفض وعدم التصالح له تاريخ قديم وجرح عميق في الفكر الجمعي لأهل المدينة. يستدلون على هذا بأنّ أهل درسدن رموا ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية بالبيض عندما زارت المدينة عام 1992 قاصدة كنيستها الشهيرة، التي دمرها الإنكليز وأعاد الدرسدنيون بناءها.
إلى ذلك، بثت محطة "زد دي أف" تقريراً خاصاً حول المبادرات الشخصية والشخصيات ذات التوجه اليساري في المدينة التي تسعى بكلّ قوتها إلى إعادة الحيوية إلى المدينة ومكافحة اليمين المتطرف الذي يؤثر في حياتها وعملها. من ذلك أنّ أفراد فرقة موسيقية أشاروا خلال التقرير إلى أنّهم لطالما نظموا حفلات أسبوعية في المدينة قبل ظهور "بيغيدا" كان الناس يأتون إليها من مختلف المدن الأخرى للرقص. لكنّهم أكدوا أنّ حالة الذعر والخوف التي زرعتها "بيغيدا" جعلت الألمان يتراجعون عن المشاركة في مثل هذه الحفلات، بل ويحجمون عن الفرح.
سيدة أخرى تدعى تينا تعمل في المجال الاجتماعي وتدعم الأطفال الفقراء، ذكرت أنّ "بيغيدا" من شأنها أن تدمر حياة درسدن الجميلة. تقول إنّ هذا التعصب عندما يبدأ، قد يطاول كلّ المستويات، وفي الدرجة الأولى سيطاول الطبقات الأضعف في المجتمع. يؤكد هؤلاء أنّ حلّ المشكلة يبدأ بخلق فرص عمل للشباب حتى يشعروا بقيمتهم ويخرجوا من دائرة البطالة والتعصب.
من جهتها، تقول السيدة يانا من درسدن لـ"العربي الجديد": "في بداية ظهور بيغيدا في مدينتنا، انقسمت العائلات الألمانية نفسها بين مؤيد للحركة ورافض لها. وهو ما شتت الكثير من الأسر الدرسدنية. أعرف الكثير من الأصدقاء الذين لم يعودوا يتحدثون مع أهلهم أو أخوتهم. آخرون انقسموا في الشارع نفسه... كان أحدهم يسير في تظاهرات بيغيدا ويصرخ ضد اللاجئين والمسلمين، وآخر في الجانب المقابل يصرخ: محمد.. أحمد، كما جرت عادة اليسار في الصراخ في وجه النازيين الجدد".
تائهون
في سياق متصل يقول المحلل النفسي يوغ مايا: "يجب تناول مشكلة التعصب من عدة جوانب، وتحليلها بغضّ النظر عن المدينة التي يستطيع النازيون الجدد النشاط فيها. اليوم، نسمع بتظاهرات بيغيدا في درسدن. ومنذ فترة سمعنا بجدار عازل في ميونيخ يحيط بمنازل اللاجئين السوريين لأنّ منازلهم تسيء إلى مظهر المدينة العام. وفي حادث آخر ضرب شاب سيدة تركية محجبة على وجهها في كيل، شمال ألمانيا. إذن، المشكلة في الظاهرة وفي وجودها وليس في مكانها".
يتابع: "اليمين المتطرف ينتشر في أوروبا بكاملها، وقد لا يخلو بلد أوروبي من هذا التيار. لكنّي سأتكلم عن الشباب الألماني تحديداً الذي يعتنق هذا الفكر، أو بالأحرى يروّج نفسه على أنه يعتنق الفكر النازي، فنحن إذا راقبناهم نجد أنّهم يظهرون أنفسهم في المجتمع بالكثير من الوشوم والحلق وقصات الشعر الغريبة. لكن لو رجعوا قليلاً إلى تاريخ النازية، سيجدون أنّ جرائم النازيين بدأت أولاً ضد المثليين وأصحاب الوشوم".
يردف: "أحضرت هذا المثال لأظهر سطحية معرفتهم بالنازية. مع ذلك، علينا ألا ننجر إلى البروباغندا التي تقول إنّ جميع النازيين الجدد أو مؤيدي بيغيدا أو حزب البديل من اجل ألمانيا (يمين) هم شباب متهورون وعاطلون عن العمل أو يتركزون في شرق ألمانيا وليس غربها. من بين مؤسسي حزب البديل أنفسهم أستاذ جامعي ومحامٍ. وكثير من العاملين في الحزب أيضاً من الأثرياء وليسوا من متوسطي الدخل". يختم: "علينا أن ننتبه لكلّ ما يجري على الساحة وتحليله بدقة لإيجاد الحلول المناسبة في وجه اليمين المتطرف".