تحلّ الذكرى الخمسون بعد السبعمائة لمولد الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، والذي لا يُعرف له تاريخ محدد سوى أنه يقع في الشهر الممتد بين منتصف أيار/ مايو ومنتصف حزيران/ يونيو من سنة 1265. تقوم المراكز الثقافية الإيطالية عبر العالم بتنظيم ندوات ولقاءات حول حياته وأعماله.
اشتهر دانتي بملحمته الشعرية "الكوميديا الإلهية"، أما اسم "الكوميديا" فلأنها بالتعريف الكلاسيكي، عكس التراجيديا، تعبير عن سعي الإنسان إلى لقاء الله أو القدر واتحاد إرادتيهما، وبالنسبة لـ"الإلهية" فهو لفظ أضافه ناشرو عصر النهضة تعبيراً منهم عن فرادة هذا العمل، أي أن "الإلهية" توصيف ينسحب على المتن نفسه لا على مضمونه كما يعتقد كثيرون.
يبدو دانتي من خلال مجمل أعماله، من الأبناء المفاجئين للعصر الوسيط، ورغم أنه وُلد تاريخياً في هذا العصر إلا أن الباحثين احتاروا في نسبة فكره إلى عصر النهضة أم إلى القرون الوسطى الأوروبية. والحال أن تأثير دانتي في عصر النهضة كان كبيراً وشمل مناحي عدة، لأنه مثّل لحظة قبض على التراث الإنساني الذي سبقه وقمةً تطلّ على ما هو آتٍ، فتناوله للتراث الكلاسيكي كان حدثاً سيتكرر في مسيرة الفكر الغربي لاحقاً، كما أن حماسه السياسي المشبوب كان نذيراً بتحولات جذرية ستعصف بالقارة العجوز. ولعلّ أوضح دليل على هذا أن كتابه "في المَلكية"، الذي عَرَضَ فيه تصوراته السياسية، وُضِع سنة 1554 في قائمة الكنيسة للكتب المحرّمة.
منذ صغره تولّد لدى دانتي شعور عميق بوحدة الوطن الإيطالي وانخرط بكل جوارحه في سبيل هذه الغاية؛ ومن هنا كان حماسه للغة العامية الإيطالية، وكانت تسمى "التوسكانية" آنذاك، وصراعه "الدنيوي" مع البابوية التي رأى فيها حائلاً أمام الوحدة المنشودة. لم يكن حماس دانتي للإيطالية نابعاً من عصبية قومية عمياء، بل من إيمانه العميق بأن فساد اللغة ضرورة حتمية وتاريخية؛ أحسّ، بوصفه لغوياً متمرساً، بأن ساعة اللاتينية قد انقضت وآن لها أن تفسح الطريق أمام لغة جديدة. ومن خلال كتابه "في البلاغة العامية"، يتضح أن دانتي لم يكن عييّاً باللاتينية ليلجأ إلى اللغة العامية بل مصلحاً لغوياً ذا رهافة نادرة.
جسّد دانتي بوادر إصلاح سياسي ولغوي مقلقَين لمؤسسة الكنيسة والبابا بونيفاتشو الثامن، رغم أن الإصلاح في جوهره كان دنيوياً أكثر منه عَقَديّاً؛ وكان دانتي يرى وجوب فصلٍ جزئي بين الديني والسياسي، إذ إن البابا والإمبراطور مَثّلا بالنسبة له مُجّسِدين لسلطة الرب، في السرمدية بالنسبة للأول والزمنية بالنسبة للثاني. كان هذا تصوراً مبكراً جداً وأوليّاً للعلمانية.
أحس الشاعر الإيطالي بأن للبابوية تأثيراً سلبياً ومضاداً على الوحدة التي طالما آمن بها، وقد برهن التاريخ على صدق نبوءته، فالبابوية بطموحها السياسي المُعلن تسببت في تأخر الوحدة الترابية لكل من إيطاليا وألمانيا ردحاً من الزمن، ما ولّد نزعات قومية أشد تطرفاً في هذين البلدين. كما أدّت تصوّراته هذه وحماسه السياسي المتّقد، إضافة لنظرته إلى اللغة اللاتينية المقدسة وقتذاك، إلى مواجهة حتمية مع الكنيسة، التي أصدرت بحقه قرارات إعدام ونفي متكررة، قبل أن تعترف به لاحقاً كرمز خالد.
رغم أن "الكوميديا" لا تخلو من التصوّرات المسيحية القُروسطية، إلا أن التجديد فيها كان اعتماد دانتي على امرأة هي معشوقة الصِبا بياتريتشي، مَركزاً لهذا العمل الخالد، فهي تارة ترميز لنور الإيمان المُنجي، وتارة استعارة للكنيسة بوصفها موطن اليقين وبركة الرب.
وهو تصوّر يعتبر ثورياً في ذلك الوقت عن المرأة ومكانتها داخل الخطاب الديني عموماً والكاثوليكي خصوصاً. كما تتميّز "الكوميديا" بأنها نص ذو طبقات، كثيف وموغل في الرمزية، إذ إن دانتي استطاع بموهبته حشد كمٍّ هائل جداً من الشخصيات دون أن يسقط لحظة في الحشو أو الإقحام؛ وقد أبهر دانتي قُرّاءه عبر العصور بقدرته الوصفية البديعة وإلمامه بدقائق التفاصيل، وهو ما يفسّر افتتان الفنانين ـ والرسامين خصوصاً ـ بهذا العمل وتسابقهم لتجسيد مشاهد منه.
أما بالنسبة للثقافة العربية المعاصرة، وبعيداً عن صورة دانتي المنتحِل و"السارق" الأدبي لـ"رسالة الغفران" أو "الفتوحات المكية" أو حتى كتاب "معراج الرسول"، لمؤلف أندلسي مجهول، لم تحفّز ترجمة الراحل حسن عثمان لـ"الكوميديا الإلهية" والعمل الاستثنائي الذي بذله في سبيلها إلى ظهور اهتمام خليق بشاعر فذّ في الأوساط الثقافية والأكاديمية العربية. في المقابل، ظهرت ترجمات جديدة للعمل الشعري نفسه وعن لغات وسيطة، وراح كل مترجم يسوق الحجج التي دفعته دفعاً لإعادة ترجمة العمل.