داعش وفن صناعة الصورة المتوحشة

18 فبراير 2015
علينا دراسة الصورة وإتقان صناعتها (Getty)
+ الخط -

سيول من التذمر وندب الحظ وشتم العالم وازدراء الدنيا وذم الكون، يتساءل أحدهم: أين هذا الاهتمام بحرق أسير الأردن من مأساة بورما، وثانٍ يزيح بورما ويكتب مكانها العراق، وثالث يزيح بورما والعراق ويكتب مكانهما مصر، ورابع يرى أن سورية وضعها أشد وأنكى من الثلاث، وخامس يستحضر أرواح الدول سالفة الذكر جميعها ويزيد عليها فلسطين وليبيا واليمن ليمارس نوعاً من العويل والبكاء واللطم على كل ما يجري وجرى، ولا يفوته بالطبع لعن الظالمين آلاف المرات والنظام الدولي والمستبدين والصامتين والمتخاذلين والمتآمرين والمنافقين والمطففين، وربما أبقى القليل ليوجهه إلى نفسه البائسة!

سؤال، لماذا أخذت تلك الحادثة كل هذا الزخم، في حين غاب الضوء عن حوادث أخرى قد تكون أبشع وأكثر تأثيراً على المشاهد وبقيت في العتمة، هذا السؤال معقد ومتراكب وله العديد من زوايا الرؤية التي لا يتسع المجال للخوض فيها، خصوصاً أن العديد منها مرتبط بأسباب لا يمكن أن يمتلك الموثق البسيط التأثير عليها، وسيُكتفى بالإشارة إلى زاوية واحدة من الرؤية تتعلق بالمصور الموثق نفسه وقدرته على صناعة التأثير المتنامي، كما تفعل أجنحة الفراشة على المدى البعيد.

وحجر الزاوية في حادثة حرق الطيار الكساسبة يكمن في العدد الكبير من المقالات واللقاءات التحليلية لمختصين حول سينما داعش، وفن صناعة الصورة المتوحشة الصادمة التي تمكنت من أسر المشاهد وجعله ذبيحاً افتراضيا لعملية ذبح حقيقية. لقد أتقنت داعش صناعة الصورة وإبرازها وتوريط المشاهد فيها، وجعله جزءا من التفاعل الوحشي الحاصل، في حين غاب هذا التأثير وهذه الصناعة عن ملايين الصور والمقاطع التي نشرها ناشطون وحركات وجماعات في كل تلك البلاد التي تعاني وتمر بظروف قاسية غير آدمية، فكانت صوراً ميتة لا حياة فيها، ولا يمكنها أن تصنع التفاعل المتنامي، وربما انحصر تأثيرها في أحاسيس سلبية تتمثل في الإحباط والحزن والتذمر والشعور بالعجز ومحاولة الهرب من الواقع، وربما البلادة المتولدة عن كثرة مشاهدة الموت والدمار كما في صور الأشلاء والدماء والجثث التي غادرتها الحياة دون أن ترصدها الكاميرات!

إن المشاهد يحتاج أن يتفاعل مع تفاصيل الحياة التي تسبق الموت، وأن يتفاعل مع عيون الضحايا السابحة في الفضاء، وأياديهم المرفوعة إلى السماء، مع تنهداتهم، مع تألماتهم، مع تأوهاتهم. إنها القوة التي كمنت في مشهد محمد الدرة، وفي ذلك الطفل الأفريقي الذي ينتظر الموت ويقف بجانبه نسر يريد الانقضاض عليه، في مشهد الفتاة الفيتنامية التي تركض عارية بعد أن أحرقتها قنابل النابالم الأميركية، في مشاهد التعذيب في أبو غريب.

إنها القوة التي كمنت في مشهد معاذ الكساسبة يسير بين الحطام، شاخصة عيناه، ربما تتصارع الأفكار في رأسه، يقوده سجانوه إلى المحرقة!

ما القاسم المشترك في كل تلك الحوادث؟! إنها الحياة التي سبقت الموت، إنها القدرة على تفاعل الجمهور خلف الشاشات، على إحساسهم العظيم بآلام المعذبين، على تمني القدرة والقوة من أجل إنقاذهم. إنها فن صناعة الصورة من خلال حبكة المأساة. إنها القدرة على فتح الكاميرات في الوقت المناسب لصناعة القصة الدرامية الدامية، إنها القدرة على إدماج المشاهد ليعيش التجربة المتوحشة بنفسه، إنه الموت حينما تنبض عروقه بالحياة.

إن من يستطيع اليوم صناعة الموت النابض بالصورة والمشهد الحي يمكنه أن يصنع التفاعلات والانشطارات الإنسانية، يمكنه أن يجبر المشاهد على التحرك، والمجتمع على القيام، إن الجهات الإغاثية اليوم بحاجة إلى دراسة الصورة وإتقان صناعتها، إن المصلحين في المجتمعات عليهم ذلك أيضاً، إن العشوائية ونظام "الفزعات" لم يعد يجدي نفعاً، وربما أضر أكثر مما ينفع، فهل لنا أن نتعلم من صورة داعش الوحشية صناعة الحياة!


(البحرين)

المساهمون