داريا، وردة الحياة في وجه الموت
اسمها يعني، بالسريانية القديمة، الدور الكثيرة العامرة. بلدة قديمة قدم دمشق، تقع وسط الغوطة الغربية، وربما هي أكبر بلدات الغوطة ومدنها. كان أهل دمشق يعرفونها جيّداً، يعرفون جوامعها وكنائسها، يعرفون التنوع في سكانها، مثلما كانوا يعرفون خيرها وخيراتها. كانت داريا المصدر الأول لخضار وفاكهة الأسواق الدمشقية العريقة، مثلما أصبحت لاحقاً مصدراً للمفروشات الخشبية للطبقة الوسطى في دمشق. مع ذلك، ثمّة ما كان مجهولاً لغالبية السوريين عن داريا، ولا تعرفه سوى قلة تشتغل بالشأن المدني المحظور عقوداً، عملت مجموعة من شبابها وشاباتها، قبل بدء الثورة بسنوات، على تشكيل نواةٍ لمجتمع مدني في البلدة، تنظيف شوارعها وتنظيمها، إقامة مكتباتٍ صغيرة وندوات للقراءة والسينما وحلقات للنقاش، نشاطات ترفيهية للأطفال، تتلمذت هذه المجموعة على نهج المفكر الإسلامي السوري، جودت سعيد، مؤسس تيار الإسلام السلمي اللاعنفي الذي يعتبر أن لا حل للإسلام سوى بدول ديموقراطية، تحترم حقوق الجميع، أسوة بالدول الغربية. في دعوته، كان ثمة ما يشير إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، لكي يبقى الإسلام محافظاً على روحه السمحاء النبيلة، كثيرون من شباب داريا وشاباتها آمنوا بهذا النهج، وعملوا على تطبيقه في بلدتهم على نطاق ضيق. اعتقل كثيرون من نشطائها في بداية الألفية الثانية، وحرم كثيرون منهم من حقوقهم المدنية.
لهذا، عندما بدأت الثورة، خرجت داريا، في أولى المظاهرات السلمية التي كانت مثالاً ناصعاً ومبهجاً عن شكل الثورة السورية، يتذكّر الجميع مظاهرتها الأولى في 25 مارس/ آذار 2011، والتي أعقبتها مظاهرات كانت تخرج كل يوم جمعة في سورية. يتذكّر الجميع أيضاً يوم الجمعة العظيمة، والمظاهرات التي عمت سورية. يتذكّرالجميع كيف حمل المتظاهرون الورود وزجاجات المياه، وتقدّموا بها إلى جنود النظام وشبيحته الذين كانوا يحاصرون البلدة، في بادرة حسن نية من ناشطي داريا السلميين، تقول، على غرار ما قاله المصريون في ميدان التحرير وقتها "الجيش والشعب إيد واحدة"، غير أن اليد الواحدة انقسمت، وامتد جزء منها بالبطش والموت على الجزء الآخر. سقط من شباب داريا يومها سبعة شهداء، ليكونوا فاتحة الدم فيها، وفاتحة العنف غير المسبوق الذي قوبلت به سلميتها الرائعة، والذي استمر بحصار البلدة وانتشار الحواجز الأمنية فيها، وقطع الاتصالات عنها، واعتقال معظم نشطائها السلميين وتصفيتهم، بدءاً بالشاب المعتز بالله الشعار الذي تمت تصفيته على أحد الحواجز في الأول من مايو/ أيار، ثم لتطال يد البطش الجميع، في مقدمتهم الناشطين، أسامة نصار ويحيى الشربجي الذي قال: "أن أكون مقتولاً خير من أكون قاتلا"، لترتفع وتيرة العنف مع اعتقال الناشط غياث مطر، صاحب فكرة حمل الورود، وإعادته جثة مشوهةً إلى عائلته بعد أربعة أيام من اعتقاله. ومع بدء تسليح الثورة، دخلت داريا كغيرها في هذه الموجة، على أن الفكر المدني السلمي ظل موجوداً بقوةٍ فيها. مع السلاح، أصدر ناشطو داريا مجلة "عنب بلدي"، وهي فاتحة المطبوعات الثورية في المدن والبلدات الثائرة، واستمروا في نشاطهم المدني في قلب البلدة، واستطاعوا بإصرارهم تخفيف حدة التطرف الذي كان ينتشر كالنار في البلدات الثائرة. حيّدت داريا قليلاً عن نهج التطرف، وظل حراكها المدني فعالاً، وكلما ظهرت رايةٌ سوداء فيها، كانت تخفض سريعاً ليظهر علم الثورة من جديد، ما كان يثير جنون النظام السوري الذي كان يعمل على انتشار السلاح العشوائي والمتطرّف، ليسد ذرائع جرائمه. هذا الإصرار على المدنية في داريا، عرّضها لاقتحاماتٍ متواصلة، ولقصف الطائرات وبراميل الموت، ولجنون إجرام الدولة المنظم. وإلى اليوم، مازالت داريا تخوض صراع بقائها، كما أراد لها شبابها، الراحلون منهم والباقون، صراع البقاء في وجه الموت، وصراع المدنيّة في وجه التطرف، وصراع السلمية في وجه السلاح، وصراع الوردة في وجه الرصاصة. ولعل ما تعرّضت له قبل الهدنة الأخيرة من محاولات تدمير، يدل على ذلك، ولعل أيضاً، مظاهراتها المطالبة برحيل النظام وإيقاف القتل، أول ايام الهدنة، مؤشراً على إصرار أهل داريا على تلقين دروس الوطنية للجميع.