لم يعد سراً وجود فريق داخل تيار المستقبل (بزعامة النائب سعد الحريري) يدفع تجاه تبنّي ترشيح رئيس تكتل "التغيير والإصلاح"، النائب ميشال عون، لرئاسة الجمهورية. هذا الفريق يملك مواقع قوة أساسيّة داخل تيار المستقبل، ومن الدعاة لهذا الخيار مستشارون مقربون من رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري.
بعد نحو أسبوعين على انتهاء الانتخابات البلدية، يبدو أن وجهات النظر في تيار المستقبل تتباعد لجهة استخلاص نتائج هذه الانتخابات. ففي حين سارع وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى تحميل السياسة السعودية مسؤولية الأخطاء التي أدت إلى تراجع شعبيّة "المستقبل"، يفضل مسؤولون آخرون في التيار الكلام في الجلسات المغلقة، بانتظار إعلان الحريري موقفه النهائي خلال خطابات سيلقيها في إفطارات رمضانية. ينقل مسؤولون في "المستقبل" عن المشنوق اعتباره أن ما قاله يهدف لتحريك "المياه السياسية الراكدة"، وعلى الرغم من ردة الفعل السعودية الحادة تجاهه، يرى المشنوق أن المجال لا يزال مفتوحاً لقراءة سعودية إيجابية للموقف.
مقابل موقف المشنوق هذا، يبدو أن عدداً لا بأس به من نواب تيار المستقبل، لا يرى الأفق ورديّاً. بدأت أصوات هؤلاء ترتفع سلباً تجاه الحلقة الضيقة حول الحريري، إذ يعتبرون أن بعض أفراد هذه الحلقة تُحرّكهم المصالح الشخصية على صعيد الصفقات. ويحدد هؤلاء ثلاثة خيارات يمكن للحريري اعتماد أحدها، ويلفتون إلى النقاط الإيجابية والسلبية لهذه الخيارات.
الخيار الأول، هو أن يستمر الحريري بالسياسة التي اعتمدها منذ أن قرر المشاركة في حكومة الرئيس تمام سلام إلى جانب حزب الله (2014)، والتي تلاها عقد جلسات الحوار الثنائي بين حزب الله وتيار المستقبل. يعتقد هؤلاء، ومنهم نواب في كتلة المستقبل، أن هذا الخيار سيؤدي إلى استمرار الانهيار في شعبية الحريري، وستكثر التجارب المشابهة لتجربة وزير العدل المستقيل أشرف ريفي. كما يشيرون إلى أن تجربتَي الحكومة والحوار يمكن وصفهما بـ"السيئتَين".
ففي الحكومة، يُحاسَب "المستقبل" على أنه شريك فعلي، خصوصاً أن رئيس الحكومة من فريقه. "عملياً، لم يعد يستطيع رئيس الحكومة اتخاذ أي قرار حتى في الهيئات التابعة له. فمثلاً يقرر سلام دفع تعويضات عبر الهيئة العليا للإغاثة، لكن وزارة المالية توقف صرف هذه التعويضات"، يقول أحد النواب. وتكثر الأمثلة حول هذا الأمر في صفوف المستقبليين. وفي ما يخصّ الحوار مع حزب الله، يرى هؤلاء أنه لم يحقّق الحد الأدنى من أهدافه، وهو تعطيل "سرايا المقاومة" (تابعة لحزب الله). "لذلك، فإن الاستمرار في السير بالسياسة الحالية لتيار المستقبل، ستكون نتائجه كارثية، لكن ليس بشكلٍ سريع. بل إن التآكل سيستمر بالوتيرة السابقة، لكن قد نصل للانتخابات النيابيّة بعد عام، ولا يستطيع تيار المستقبل الحفاظ على نصف كتلته النيابية"، يقول هذا النائب.
أمّا الخيار الثاني، فهو أن يذهب الحريري بالتسوية السياسية مع حزب الله إلى النهاية، عبر انتخاب عون رئيساً للجمهورية. وبذلك، سيصطدم الحريري بعقبة أساسية، وهي أن عدداً من نوابه سيرفضون التصويت لعون. بالتالي، سيكون أمام خيار من اثنين، إما الصدام مع عدد من النواب مثل رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، وكل من النواب معين المرعبي، وجمال الجراح، وأحمد فتفت، وآخرين، أو إعطاء النواب حرية الاختيار.
في حال سار الحريري بانتخاب عون، "فهذا سيعني أنه يريد العودة إلى رئاسة الحكومة، وسيقبل به الفريق الآخر، لكن سيستنزفونه في الحكومة ليخرج منها أضعف مما دخل إليها"، على حدّ قول مسؤول في "المستقبل" عاصر تجربة الحريري في الحكومة بعد انتخابات عام 2009 النيابيّة. ويعتبر أن "وجود الحريري في الحكومة، لن يكون محط ترحيب كبير في دول الخليج".
ووفقاً لنائب في تيار المستقبل، "سيؤدي هذا الأمر إلى تراجع حاد في شعبية الحريري. فالانتخابات البلديّة أكدت لنا أن ناخبينا لا يؤيدون هكذا تسويات". ويضيف أن النواب الحاليين لن يقفوا ويشاهدوا شرعيتهم تتراجع ومؤيديهم يبتعدون عنهم، بل سيتصرفون، وهو ما يعني صدامهم مع الحريري تدريجياً. ويقول المؤيدون لهذا الخيار في تيار المستقبل، إن موافقة الحريري على انتخاب عون سيؤكّد للجميع أنه لا يُعطّل انتخاب رئيس للجمهورية، وأنه يؤيّد التوافق المسيحي. ويُعبّر بعض هؤلاء عن قناعتهم بأن لا مصلحة لحزب الله بانتخاب رئيس للجمهورية، وهو بالتالي سيُعيق انتخاب عون، ما سيؤدي إلى "خلق شرخ كبير بين عون وحزب الله"، بحسب أحد مؤيدي انتخاب عون في تيار المستقبل.
أما الخيار الثالث فيدعمه فريق واسع في تيار المستقبل، ويحظى بغطاء سعودي، وهو أن يذهب الحريري باتجاه المعارضة. يقول أحد السياسيين في فريق الحريري ممن عملوا مع الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري، إن هذا الخيار سيسمح للحريري بتحقيق سلسلة مكاسب، أهمها استعادة العلاقة مع جمهوره. لكنّه يضيف أن خيار المعارضة سيؤدي إلى إبعاد "الطُفيْليين" عن الحريري، الذين لن يجدوا الكثير من المنافع، خصوصاً أن الوضع المالي للحريري نفسه ليس في أفضل أحواله.
ويلفت إلى أن التواجد في المعارضة سيترك هامشاً واسعاً للحريري للتحرك سياسياً وشعبياً، وسيجعل أي حكومة تحظى بغطاء حزب الله المباشر، وهو ما سيُحمّل الحزب مسؤولية الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والخيارات السياسية، خصوصاً "أننا لا نستطيع تمرير أي شيء من خياراتنا في الحكومة الحالية"، يقول أحد المستقبليين.
التنازلات التي قدمها الحريري في حكومة سلام لحزب الله لم تستطع حكومة نجيب ميقاتي تأمين جزء يسير منها، بسبب وجود الحريري خارجها. لذلك يعتقد هذا المسؤول المستقبلي أن الوجود خارج الحكم لمرحلة من الزمن سيُجبر حزب الله على إعادة النظر في سياسته المحليّة، كما سيسحب من التداول الشعار الذي تم تكريسه بأن الحريري يُصادر صلاحيات المسيحيين في لبنان. ويلفت هذا المسؤول إلى أن هذا الأمر سيُعيد خلق حالة تفاهم مع المجموعات الشبابية التي كانت في صفوف فريق 14 آذار، وتقود اليوم الحركة الاعتراضية على أداء الحكومة والطبقة السياسية، "ويمكن، بالتالي، للحريري أن يُحيّد نفسه عن الصراع مع المجتمع المدني".
ويذهب أحد النواب إلى الدعوة للاستقالة من الحكومة الحالية، والتمسك بانتخاب رئيس للجمهوريّة لإعادة الحياة السياسية إلى مسارها الطبيعي وتحميل حزب الله مسؤوليّة أي تعطيل لها. لكن لا يبدو أن الحريري يؤيّد هذا الخيار، على الأقل هذا ما يوحي به رده على أصحاب هذه الفكرة خلال إحدى جلسات النقاش، إذ لفت الحريري إلى أن "سنّة سورية أخذوا خيار المعارضة لحده الأقصى، فما الذي فعلته لهم السعودية؟"، كما ينقل أحد النواب عنه.
تتسارع الأحداث داخل البيت المستقبلي، ويبدو أن على الحريري الحسم، بشكلٍ سريع، لمنع ازدياد ظاهرة الأجنحة داخل التيار، أو لرفع سقفه حتى تبقى هذه الأجنحة تحته.