07 نوفمبر 2024
خيارات إدلب ومستقبلها [2-2]
تتّجه أنظار السوريين إلى إدلب الآن؛ إذا إن مصيرها تتدارسه الدول الإقليمية والعالمية، فهل سيتم تصفية وضعيتها "خفض التصعيد"، حيث استفادت جبهة فتح الشام (جبهة النصرة) منها، وفرضت سيطرة كاملة على المدينة، وهل سيستمر ذلك لها، وكل الدول تصنفها جبهة إرهابية، ويجب الخلاص منها. الجبهة معنيةٌ بحلِّ نفسها، وتركيا معنيةٌ بشن حرب عليها، روسيا وحلفاؤها معنيون بالحرب كذلك، ولطالما شنّوا هجماتٍ مستمرّة عليها، وقد بدأوها مجدّداً في ليل 10/8/2018، وكذلك أميركا وحليفتها "قوات سورية الديمقراطية".
حاول الجزء الأول من هذه المطالعة إيضاح خصوصية مدينة إدلب، فقد تطرق إلى أوضاعها قبل العام 2011، وبعدها، ووصولاً إلى الوضع الراهن. يحاول الجزء الثاني إيضاح كيفية تشكيل الفصائل السلفية والجهادية والجيش الحر، والصراع بينها، وهيمنة جبهة فتح الشام في اللحظة الراهنة.
تزامن الإطلاق والتشكّل
تزامن تشكّل الجماعات السلفية والجهادية في سورية مع إطلاق النظام سراح مئات المعتقلين في الشهر الخامس من عام 2011، أي بعد بدء الثورة الشعبية بشهرين، وتربط أغلبية التحليلات سبب ذلك الإطلاق بضرورة تشويه الثورة وتخريبها وهزيمتها. انخرط أغلبية من أُطلق سراحهم في تلك الجماعات، و4 شخصيات منهم ومن مؤسسيها؛ فجيش الإسلام أسّسه زهران علوش، والفاتح الجولاني (أسامة العبسي) أسّس جبهة النصرة، وحسان عبود أسّس
كتائب أحرار الشام، ولاحقاً أصبح اسمها "جبهة أحرار الشام الإسلامية"، حينما تحالفت مع كتائب أخرى، وظلَّ في قيادتها إلى 9/9/2014، حينما لقي حتفه في تفجيرٍ كبيرٍ، هو وقرابة خمسين من قادة الصف الأول في الأحرار. الأخيرة من أكبر الجماعات السلفية / الجهادية في كل المدن السورية، وقد تهمّشت، بعد خسارتها المعركة الأخيرة مع جبهة النصرة في يوليو/ تموز 2017، وكذلك بعد فقدانها قادتها المؤسّسين 2014. يضاف إلى كل ما سبق أن قيادات تنظيم (داعش) جاءت من العراق، وللقصد ذاته، أي تخريب الثورة وتفشيلها، وخاض حروباً متعدّدة ضد كل الفصائل المعارضة للنظام، وسواء أكانت سلفية أم جهادية أم من الجيش الحر، وهناك ترابط دقيق بينه وبين النظام، حيث تندر العمليات العسكرية بينهما.
تأسّست ثلاث من الجماعات الجهادية والسلفية في إدلب، وهي مركز انطلاقتها وتطوّرها ونهايتها، أحرار الشام، وجبهة النصرة، وصقور الشام. والسؤال: لماذا وجدت هذه الحركات أرضاً خصبة لها في إدلب؟ ولماذا لم تنضوِ في جماعةٍ واحدة، وتُشكّلُ قوةً ضاربة ضد النظام؟ ولماذا ظلّت تقيم التحالفات بين بعضها، وتُحاول سحق الجماعات الأخرى في الآن نفسه! تشكلت هذه الجماعات وتوسعت في الفترة ذاتها، وأنشأت لنفسها فروعاً في مختلف مدن سورية؛ وإن ظلت "صقور الشام" مقتصرة على إدلب بشكلٍ أساسيٍّ، ولا سيما بجبل الزاوية. توسع "داعش" أيضاً وتمدّد إلى مختلف المدن، وشكّل دولة وخلافة، وشطب الحدود، وتوسّع إلى خارج سورية والعراق. يعود اختلاف هذه التجارب إلى اختلاف رؤية قادتها ومرجعياتهم الفقهية والجهادية، وارتباطاتهم الإقليمية والدولية والمحلية. الشيء الوحيد الذي يجمعهم أنهم استغلوا الواقع السوري الثائر، ليقيموا إماراتهم؛ والنظام وحلفاؤه ومعارضوه من الدول أرادوا ذلك أيضاً ليتخلصوا من الثورة أولاً، ومنهم ثانياً!
تَجاورَ محافظة إدلب الدولة التركية، وضُعف موقعها الجغرافي وبعده عن العاصمة والوسط، وقلة ثرواتها الباطنية، ووجود إرث انتقامي إخواني في الثمانينيات، أقول ربما تضافرت كل هذه العناصر لتظهر تلك المنظمات في المحافظات. والمنظمات الجهادية رفضت الاحتجاج السلمي والمظاهرات، وعلى الرغم من محاولة كل من رئيس جبهة أحرار الشام، حسّان عبود، وقائد "صقور الشام"، أبو عيسى الشيخ، القول إن تنظيماتهما شاركت ضمن المظاهرات المدنية، ثم اقتنعوا أن لا شيء يُسقط النظام إلا العسكرة، فإن الخيار العسكري كان هو الأساس في تشكيل هذه الجماعات. وهنا يفاخر حسّان عبود وصقور الشام بأنهم كانوا من أوائل دعاة العسكرة، أي أنهم لم يقتنعوا بكل مسار السلمية، وطبعاً كانوا يعلنون أنهم ليسوا مثل الثوار، وأكدوا مرّاتٍ أنهم ليسوا كالجيش الحر، أو المعارضة أو الإخوان أوالتنسيقيات. تتحدّد إشكالية هذه الجماعات في طبيعة برنامجها الجهادي والسلفي والديني المضادّ للثورة، وفي رفض تشكيل قيادة موحدة للعمل العسكري، ورفض الانصياع للمعارضة السياسية، ورفض أعلام الثورة وشعاراتها؛ وبالتالي لم تتلكأ هذه المنظمات في عدائيتها للثورة الشعبية، وتبنّت خطابَ النظام في تعريف الثورة أنها ثورة للطائفة السنية وضد النظام العلماني، أليس هذا ما عمّمه النظام؟
الهيمنة والتعدّد الفاسدان
لا يمكن لعاقل أن لا يرفض أسباب الخلاف في تشكيل منظمات مستقلة عن بعضها، فجبهة
النصرة جزء من تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهري، وجبهة أحرار الشام تشكلت تيارا سلفيا جهاديا رافضا "القاعدة" والإخوان المسلمين والجيش الحر، وتشكلت "صقور الشام" تنظيما محليا في جبل الزاوية، وظل هامشيا. أما "داعش"، فتشكل ليكون امتدادا لتنظيم القاعدة في العراق. وبرزت كتائب الجيش الحر وفقاً لتوزعات القرى والبلدات والمناطق ولحماية المظاهرات فقط، وتبنّت شعارات الثورة السلمية، وظلّت مشتتة، ولم تخضع لقرارٍ عسكري واحد، على الرغم من بروز هيئات عسكرية لها، وهو مؤشّر خطير على انعدام أي رؤية وطنية للثورة والمعارضة والكتائب؛ وقد استغل النظام هذا الأمر جيداً في خطابه المضادّ لها، وكذلك استغلته المنظمات الجهادية والسلفية، وشكّلت مجموعاتها. طبعاً، يخفي هذا التعدّد رغبة في التسلط والقيادة وإلحاق الآخرين، وهناك من يؤكّد أن الأسبقية لدى كل من "داعش" وجبهة النصرة هي للمرتدّين "والصحوات" على الكفرة "النظام"، أي المنظمات المحلية أولاً وثانياً النظام! لم يتوان عن ممارسة الهيمنة على الآخرين أي فصيل أو جماعة، وكذلك المعارضة السياسية من مجلسٍ وطنيٍ وائتلاف وهيئة تنسيق وحتى التنسيقيات. ليست المشكلة في الوحدة أو التحالف، بل في الإلحاق والسلبطة وغياب الرؤية الوطنية. هنا الإشكالية، وهي إحدى النوافذ التي ساعدت النظام، ولاحقاً روسيا، على الاستفراد بالمناطق والمدن وسحقها مدينة مدينة، حتى وصلنا إلى الحالة الراهنة من غيابٍ كبيرٍ لدور الفاعل المحلي، معارضةً ونظاما وفصائل، وتحكم الدول الإقليمية والعالمية في الشأن السوري بشكل كامل، وبالتحديد كل من إيران وروسيا وتركيا.
رؤية "أحرار الشام"
تشكلت كتائب أحرار الشام من خمسة فصائل، وبعدها توسّعت إلى ثلاثين ثم تسعين فصيلاَ، ثم تشكلت الجبهة الإسلامية واشتركت بمسمّيات كثيرة؛ فقد امتدت إلى مختلف بلدات إدلب وسورية. يؤكد "الأحرار" أن تنظيمَهم محلي ووطني، وأنهم ساعون إلى دولة سورية تستند إلى الشريعة، بينما جبهة النصرة ومختلف التنظيمات الجهادية يؤكّدون عالمية الإسلام والجهاد وتطبيق الحدود المباشرة، وليس التدرّج بها أو تأجيلها. صقور الشام أقرب إلى "الأحرار"، بينما "داعش" هو الأب الروحي لجبهة النصرة، ولنقل إن الأخيرة كانت جزءاً منها، ومعروف للجميع كيفية خروجها من رحم "داعش"، وهناك من يؤكد أن الاثنين وجند الأقصى في إدلب كلها خرجت من عباءة (ربما الأدق صمتها عنها) "أحرار الشام". ولهذا الرأي بعض الاعتبارات، فـ "الأحرار" جمعوا في حركتهم ما لا يجتمع، أي تيارات سلفية وجهادية ومعتدلة، وقد ظهرت على حقيقتها، أي تلك التيارات حينما تصاعدت الخلافات مع "داعش" أو جبهة النصرة أو "جند الأقصى" وسواها، فاعتمد بعضها الحياد، أو حلّ نفسه، أو انشق وانضم إلى المجموعات المقاتلة لـ "الأحرار". كان الخطأ الأكبر لهؤلاء أنهم استندوا إلى أمرين: الثأر الطائفي الشعبي القديم منذ الثمانينيات، وأفسحوا المجال لمختلف تيارات الإسلام السياسي للتعايش في داخل حركتهم. أي أنهم لم يرفضوا "القاعدة"، ولاحقاً "داعش"؛ الأمر نفسه قامت به فصائل الجيش الحر، وهو ما سَهّل نشوء الجماعات الأكثر تشدداً وجهاديّة وتمدّدها، وحينما أصبحت قوية، خاضت معارك واسعة ضد هذه الجماعات الوسطية، وحينها لم يعد مفيداً التقرّب من الثورة وشعاراتها، كما حاولت "أحرار الشام"، وحتى "جيش الاسلام"، في بعض مراحل تطورهما، فخسروا إمكانية القيادة والهيمنة، وكثيراً من المناطق، ولاحقاً تمّت تصفيتهم على يد "داعش" أو النظام، أو جبهة النصرة وقد أصبحت جبهة فتح الشام، وضمن هيئة تحرير الشام.
جاء في الجزء الأول من النص أنّ قوّة الثورة وتمدّدها إلى أغلبية الجغرافيا السورية، وضعف وجود الجيش والأمن في إدلب، ساعد الثورة السلمية والفصائل المحلية في الانتصار على النظام؛ وفي ذلك الوقت نشأت كتائب أحرار الشام وجبهة النصرة، وبدأت تحصد نتائج ذلك الانتصار، وكذلك استفادت من أخطاء فصائل الجيش الحر المحلية، والفاقدة أي مشروع وطني أو خدماتي أو سواه، وبروز ظواهر الفساد فيها. السلفيون والجهاديون محنّكون في استثمار التديّن، والمظلومية السّنية، وتلقّط الممارسات الفاسدة، وهم مدعومون إقليمياً بالدرجة الأولى، ومحلّياً بالدرجة الثانية، وكذلك لديهم رؤية سلفية لكل قضايا المجتمع.
سقوط الجهاديات و"فتح الشام"
أصبحت جبهة فتح الشام القوة الأساسية في هيئة تحرير الشام، (تشكلت أواخر 2016)، وما زالت تتحالف مع تنظيمات جهادية (الحزب الإسلامي التركستاني وجند الأقصى)، أو يوجد فيها قياديون أجانب "عرب وأوروبيون وآسيويون وسواهم"، وقد استقلت بإدلب في منتصف 2017 بعد دحر "أحرار الشام"، كما فعل "جيش الإسلام" بأغلبية غوطة دمشق قبل سقوط الغوطة الشرقية في إبريل/ نيسان 2018 بيد النظام، وبسبب تفتّت جبهات الغوطة؛ واستقل "داعش" بدير الزور والرّقة، وبعض أرياف حلب ومناطق كثيرة في درعا وحمص وحماة،
وأيضاً تشكّل تحالف دولي لتصفيته، وهو ما جرى. المهم هنا أن جبهة فتح الشام، وعلى الرغم من اندحارها من أرض الخلافة ومن غوطة دمشق، ومختلف مناطق سورية، وبحروب مع "داعش" أو "جيش الإسلام" أو النظام، فإنها سحقت في إدلب فصائل جيش الحر أولاً، وقبلها هزمت، هي و"أحرار الشام" وفصائل أخرى و"داعش" في إدلب والغوطة الشرقية، ولم تتوقف عن ذلك، وأجهزت في 2017 على حركة أحرار الشام ذاتها. كل خسارات الجيش الحر و"داعش" والسلفية والجهادية لم تُعلِّم فتح الشام شيئاً؛ إذاً أين الخلل في رؤيتها؟ أليست محاصرة إدلب حالياً، والتأكيدات الدولية المتتابعة على إسقاطها، كفيلين بدفعِها إلى البحث عن خيارٍ جديدٍ للتعامل مع الفصائل والشعب؟ لم تفعل ذلك، بل واستغلت تطبيق منطقة خفض التصعيد، واستقلال المناطق عن بعضها، بفعل المناطق الخمس لخفض التصعيد، وذلك لتُصعِدَ هي وتقضي على ما تبقى من حركة مدنية مستقلة في إدلب، ولتُنهي وجود حركة أحرار الشام بشكل كامل في 21 يوليو/ تموز 2017 كما سبق ذكره.
عمدت جبهة النصرة، بعد أن فرضت سيطرة شبه كاملة على مناطقها، وقبل الإجهاز على "الأحرار" وبعده، على محاولة إيجاد "إمارة إسلامية"، أي هي تريد دويلة لها تشبه دويلة داعش، وربما دويلة حركة طالبان، وهذا كما يبدو غرض كل حركة جهادية؛ وفرضت سيطرة كاملة على الشعب، وعلى كل المؤسسات المدنية والخدمية والسياسية والعسكرية. لهذا رفضت الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، ورفضت استقلال المجالس المحلية والتنسيقيات، واشترطت على كل المنظمات المدنية للعمل موافقتها وختمها، وفرضت إتاواتٍ عليها، واحتكرت الحركة الاقتصادية. وبالخلاص من "الأحرار" أصبحت كل أموال معابر إدلب مع تركيا والمدن السورية تحت سيطرتها ولصالحها. حاولت "اللعب" على الشعب، فدعت إلى مؤتمرٍ عامٍ ليمثل الشعب (!)، وخرجت منه بحكومة إنقاذ بقيادة محمد الشيخ. وقد منعها الضغط الدولي والإقليمي عليها من الإبقاء على اسمها القديم، جبهة النصرة، فغيرته إلى جبهة فتح الشام، لكنها ظلّت جبهة النصرة لدى الدول الكبرى والإقليمية. تابعت خوض الحروب غير المبرّرة ضد "أحرار الشام"، حتى استاء كبار مشايخها، كالمحيسني وقيادات جهادية كثيرة، وهَجرتِ هيئة تحرير الشام، وبالتالي أصبحت شبه وحيدة في إطار هذه الهيئة. فماذا ستفعل وقد أصبحت إدلب الهدف التالي للنظام ولروسيا ولإيران، ولا سيما المناطق التي تؤمن قاعدة حميميم والطريق الدولي إلى حلب؟
محاولات جبهة فتح الشام الانفتاح على تركيا، وتأمين جنودها ومرافقتهم إلى إرساء نقاط المراقبة الـ12، وانسحابها من ريف حماة الشمالي وغربي حلب وأريافها، ولا سيما جهة ريف اللاذقية، وبالتالي تسليم مناطق واسعة للنظام، أقول إن ذلك كله جاء توافقاً مع اتفاقيات أستانة؛ ولكن ذلك ليس كافياً، فهي تنظيمٌ إرهابي، ولديه جهاديون أجانب. أصبحت جبهة فتح الشام شبه معزولة، فشعبياً لطالما خرجت المظاهرات المندّدة فيها. وسياسياً لم يعد المجلس الوطني وسواه يُغطّون عليها، ويعتبرونها فصيلاً في الثورة، وخسرت أهم حليف لها، وهو حركة أحرار الشام، وكذلك فرضت سيطرة كاملة على الفصائل؛ وبذلك وَسعت دائرة الأعداء، وكل محاولاتها التغييرية والتسويقية لنفسها (تغيير الاسم، تشكيل حكومة إنقاذ، الانفتاح على المنظمات المدنية، الانفتاح على تركيا)، لم تعد كافية، فإدلب يجب أن تصبح فارغةً من الجهاديين والإرهابيين، وكذلك عليها الموافقة الكاملة على تدخلٍ تركي واسعٍ، شبيه بمنطقة درع الفرات وغصن الزيتون. وهذا مما تمتنع عنه، وهو ما حاولته معها مراراً تركيا بالدبلوماسية والهدوء واللين والتفاوض، ولكن تسليم إدلب لقيادة تركيا لم يعد أمراً قابلاً للنقاش، وفقاً لاتفاقية أستانة وعالمياً. النقاش الدولي بين كل من تركيا وروسيا وإيران، وبدرجة أقل مع أميركا، جميع هذه الدول والشعب السوري يرفضون أي وجود لجبهة فتح الشام، وبالتالي أصبحت المهمة الراهنة هي تفكيك هذه الجبهة؛ فهل تفكّك نفسها، وتقوم بترحيل الجهاديين، وتسليم إدلب إلى أهلها أو لتركيا أو للفصائل، مثل الجبهة الوطنية للتحرير التي تتأهل لدخول إدلب، وهذا يعني أن حرباً واقعة لا محالة ضدّها. إذاً تقرّر مصير إدلب، ولن تفيد بشيء مناورات وألاعيب جديدة، فإما أن تدخل تركيا إليها أو روسيا، وربما الاثنتان تُرتبان الوضع النهائي للمدينة، وهو وضعٌ سابق للحل السياسي! ومن المستبعد دخول قوات التحالف بقيادة أميركا وحليفتها قوات سورية الديمقراطية.
أُفرج عن سجناء صيدنايا إذاً لتصفية الثورة وتخريبها وإعادة تعويم النظام؛ أليس هذا ما حصل؟ إن تحميل الأطراف الإقليمية أو الدولية أو المعارضة هزيمة الثورة، وسوى ذلك كثير لا يُفيد في التغطية على دور الحركات الجهادية، ولا سيما جبهة النصرة؛ فلهذه الأطراف نصيبها في هزيمة الثورة، وللجهادية والسلفية نصيبها، وقبل الجميع يتحمل النظام مسؤولية كل مآلات سورية الراهنة.
حاول الجزء الأول من هذه المطالعة إيضاح خصوصية مدينة إدلب، فقد تطرق إلى أوضاعها قبل العام 2011، وبعدها، ووصولاً إلى الوضع الراهن. يحاول الجزء الثاني إيضاح كيفية تشكيل الفصائل السلفية والجهادية والجيش الحر، والصراع بينها، وهيمنة جبهة فتح الشام في اللحظة الراهنة.
تزامن الإطلاق والتشكّل
تزامن تشكّل الجماعات السلفية والجهادية في سورية مع إطلاق النظام سراح مئات المعتقلين في الشهر الخامس من عام 2011، أي بعد بدء الثورة الشعبية بشهرين، وتربط أغلبية التحليلات سبب ذلك الإطلاق بضرورة تشويه الثورة وتخريبها وهزيمتها. انخرط أغلبية من أُطلق سراحهم في تلك الجماعات، و4 شخصيات منهم ومن مؤسسيها؛ فجيش الإسلام أسّسه زهران علوش، والفاتح الجولاني (أسامة العبسي) أسّس جبهة النصرة، وحسان عبود أسّس
تأسّست ثلاث من الجماعات الجهادية والسلفية في إدلب، وهي مركز انطلاقتها وتطوّرها ونهايتها، أحرار الشام، وجبهة النصرة، وصقور الشام. والسؤال: لماذا وجدت هذه الحركات أرضاً خصبة لها في إدلب؟ ولماذا لم تنضوِ في جماعةٍ واحدة، وتُشكّلُ قوةً ضاربة ضد النظام؟ ولماذا ظلّت تقيم التحالفات بين بعضها، وتُحاول سحق الجماعات الأخرى في الآن نفسه! تشكلت هذه الجماعات وتوسعت في الفترة ذاتها، وأنشأت لنفسها فروعاً في مختلف مدن سورية؛ وإن ظلت "صقور الشام" مقتصرة على إدلب بشكلٍ أساسيٍّ، ولا سيما بجبل الزاوية. توسع "داعش" أيضاً وتمدّد إلى مختلف المدن، وشكّل دولة وخلافة، وشطب الحدود، وتوسّع إلى خارج سورية والعراق. يعود اختلاف هذه التجارب إلى اختلاف رؤية قادتها ومرجعياتهم الفقهية والجهادية، وارتباطاتهم الإقليمية والدولية والمحلية. الشيء الوحيد الذي يجمعهم أنهم استغلوا الواقع السوري الثائر، ليقيموا إماراتهم؛ والنظام وحلفاؤه ومعارضوه من الدول أرادوا ذلك أيضاً ليتخلصوا من الثورة أولاً، ومنهم ثانياً!
تَجاورَ محافظة إدلب الدولة التركية، وضُعف موقعها الجغرافي وبعده عن العاصمة والوسط، وقلة ثرواتها الباطنية، ووجود إرث انتقامي إخواني في الثمانينيات، أقول ربما تضافرت كل هذه العناصر لتظهر تلك المنظمات في المحافظات. والمنظمات الجهادية رفضت الاحتجاج السلمي والمظاهرات، وعلى الرغم من محاولة كل من رئيس جبهة أحرار الشام، حسّان عبود، وقائد "صقور الشام"، أبو عيسى الشيخ، القول إن تنظيماتهما شاركت ضمن المظاهرات المدنية، ثم اقتنعوا أن لا شيء يُسقط النظام إلا العسكرة، فإن الخيار العسكري كان هو الأساس في تشكيل هذه الجماعات. وهنا يفاخر حسّان عبود وصقور الشام بأنهم كانوا من أوائل دعاة العسكرة، أي أنهم لم يقتنعوا بكل مسار السلمية، وطبعاً كانوا يعلنون أنهم ليسوا مثل الثوار، وأكدوا مرّاتٍ أنهم ليسوا كالجيش الحر، أو المعارضة أو الإخوان أوالتنسيقيات. تتحدّد إشكالية هذه الجماعات في طبيعة برنامجها الجهادي والسلفي والديني المضادّ للثورة، وفي رفض تشكيل قيادة موحدة للعمل العسكري، ورفض الانصياع للمعارضة السياسية، ورفض أعلام الثورة وشعاراتها؛ وبالتالي لم تتلكأ هذه المنظمات في عدائيتها للثورة الشعبية، وتبنّت خطابَ النظام في تعريف الثورة أنها ثورة للطائفة السنية وضد النظام العلماني، أليس هذا ما عمّمه النظام؟
الهيمنة والتعدّد الفاسدان
لا يمكن لعاقل أن لا يرفض أسباب الخلاف في تشكيل منظمات مستقلة عن بعضها، فجبهة
رؤية "أحرار الشام"
تشكلت كتائب أحرار الشام من خمسة فصائل، وبعدها توسّعت إلى ثلاثين ثم تسعين فصيلاَ، ثم تشكلت الجبهة الإسلامية واشتركت بمسمّيات كثيرة؛ فقد امتدت إلى مختلف بلدات إدلب وسورية. يؤكد "الأحرار" أن تنظيمَهم محلي ووطني، وأنهم ساعون إلى دولة سورية تستند إلى الشريعة، بينما جبهة النصرة ومختلف التنظيمات الجهادية يؤكّدون عالمية الإسلام والجهاد وتطبيق الحدود المباشرة، وليس التدرّج بها أو تأجيلها. صقور الشام أقرب إلى "الأحرار"، بينما "داعش" هو الأب الروحي لجبهة النصرة، ولنقل إن الأخيرة كانت جزءاً منها، ومعروف للجميع كيفية خروجها من رحم "داعش"، وهناك من يؤكد أن الاثنين وجند الأقصى في إدلب كلها خرجت من عباءة (ربما الأدق صمتها عنها) "أحرار الشام". ولهذا الرأي بعض الاعتبارات، فـ "الأحرار" جمعوا في حركتهم ما لا يجتمع، أي تيارات سلفية وجهادية ومعتدلة، وقد ظهرت على حقيقتها، أي تلك التيارات حينما تصاعدت الخلافات مع "داعش" أو جبهة النصرة أو "جند الأقصى" وسواها، فاعتمد بعضها الحياد، أو حلّ نفسه، أو انشق وانضم إلى المجموعات المقاتلة لـ "الأحرار". كان الخطأ الأكبر لهؤلاء أنهم استندوا إلى أمرين: الثأر الطائفي الشعبي القديم منذ الثمانينيات، وأفسحوا المجال لمختلف تيارات الإسلام السياسي للتعايش في داخل حركتهم. أي أنهم لم يرفضوا "القاعدة"، ولاحقاً "داعش"؛ الأمر نفسه قامت به فصائل الجيش الحر، وهو ما سَهّل نشوء الجماعات الأكثر تشدداً وجهاديّة وتمدّدها، وحينما أصبحت قوية، خاضت معارك واسعة ضد هذه الجماعات الوسطية، وحينها لم يعد مفيداً التقرّب من الثورة وشعاراتها، كما حاولت "أحرار الشام"، وحتى "جيش الاسلام"، في بعض مراحل تطورهما، فخسروا إمكانية القيادة والهيمنة، وكثيراً من المناطق، ولاحقاً تمّت تصفيتهم على يد "داعش" أو النظام، أو جبهة النصرة وقد أصبحت جبهة فتح الشام، وضمن هيئة تحرير الشام.
جاء في الجزء الأول من النص أنّ قوّة الثورة وتمدّدها إلى أغلبية الجغرافيا السورية، وضعف وجود الجيش والأمن في إدلب، ساعد الثورة السلمية والفصائل المحلية في الانتصار على النظام؛ وفي ذلك الوقت نشأت كتائب أحرار الشام وجبهة النصرة، وبدأت تحصد نتائج ذلك الانتصار، وكذلك استفادت من أخطاء فصائل الجيش الحر المحلية، والفاقدة أي مشروع وطني أو خدماتي أو سواه، وبروز ظواهر الفساد فيها. السلفيون والجهاديون محنّكون في استثمار التديّن، والمظلومية السّنية، وتلقّط الممارسات الفاسدة، وهم مدعومون إقليمياً بالدرجة الأولى، ومحلّياً بالدرجة الثانية، وكذلك لديهم رؤية سلفية لكل قضايا المجتمع.
سقوط الجهاديات و"فتح الشام"
أصبحت جبهة فتح الشام القوة الأساسية في هيئة تحرير الشام، (تشكلت أواخر 2016)، وما زالت تتحالف مع تنظيمات جهادية (الحزب الإسلامي التركستاني وجند الأقصى)، أو يوجد فيها قياديون أجانب "عرب وأوروبيون وآسيويون وسواهم"، وقد استقلت بإدلب في منتصف 2017 بعد دحر "أحرار الشام"، كما فعل "جيش الإسلام" بأغلبية غوطة دمشق قبل سقوط الغوطة الشرقية في إبريل/ نيسان 2018 بيد النظام، وبسبب تفتّت جبهات الغوطة؛ واستقل "داعش" بدير الزور والرّقة، وبعض أرياف حلب ومناطق كثيرة في درعا وحمص وحماة،
عمدت جبهة النصرة، بعد أن فرضت سيطرة شبه كاملة على مناطقها، وقبل الإجهاز على "الأحرار" وبعده، على محاولة إيجاد "إمارة إسلامية"، أي هي تريد دويلة لها تشبه دويلة داعش، وربما دويلة حركة طالبان، وهذا كما يبدو غرض كل حركة جهادية؛ وفرضت سيطرة كاملة على الشعب، وعلى كل المؤسسات المدنية والخدمية والسياسية والعسكرية. لهذا رفضت الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، ورفضت استقلال المجالس المحلية والتنسيقيات، واشترطت على كل المنظمات المدنية للعمل موافقتها وختمها، وفرضت إتاواتٍ عليها، واحتكرت الحركة الاقتصادية. وبالخلاص من "الأحرار" أصبحت كل أموال معابر إدلب مع تركيا والمدن السورية تحت سيطرتها ولصالحها. حاولت "اللعب" على الشعب، فدعت إلى مؤتمرٍ عامٍ ليمثل الشعب (!)، وخرجت منه بحكومة إنقاذ بقيادة محمد الشيخ. وقد منعها الضغط الدولي والإقليمي عليها من الإبقاء على اسمها القديم، جبهة النصرة، فغيرته إلى جبهة فتح الشام، لكنها ظلّت جبهة النصرة لدى الدول الكبرى والإقليمية. تابعت خوض الحروب غير المبرّرة ضد "أحرار الشام"، حتى استاء كبار مشايخها، كالمحيسني وقيادات جهادية كثيرة، وهَجرتِ هيئة تحرير الشام، وبالتالي أصبحت شبه وحيدة في إطار هذه الهيئة. فماذا ستفعل وقد أصبحت إدلب الهدف التالي للنظام ولروسيا ولإيران، ولا سيما المناطق التي تؤمن قاعدة حميميم والطريق الدولي إلى حلب؟
محاولات جبهة فتح الشام الانفتاح على تركيا، وتأمين جنودها ومرافقتهم إلى إرساء نقاط المراقبة الـ12، وانسحابها من ريف حماة الشمالي وغربي حلب وأريافها، ولا سيما جهة ريف اللاذقية، وبالتالي تسليم مناطق واسعة للنظام، أقول إن ذلك كله جاء توافقاً مع اتفاقيات أستانة؛ ولكن ذلك ليس كافياً، فهي تنظيمٌ إرهابي، ولديه جهاديون أجانب. أصبحت جبهة فتح الشام شبه معزولة، فشعبياً لطالما خرجت المظاهرات المندّدة فيها. وسياسياً لم يعد المجلس الوطني وسواه يُغطّون عليها، ويعتبرونها فصيلاً في الثورة، وخسرت أهم حليف لها، وهو حركة أحرار الشام، وكذلك فرضت سيطرة كاملة على الفصائل؛ وبذلك وَسعت دائرة الأعداء، وكل محاولاتها التغييرية والتسويقية لنفسها (تغيير الاسم، تشكيل حكومة إنقاذ، الانفتاح على المنظمات المدنية، الانفتاح على تركيا)، لم تعد كافية، فإدلب يجب أن تصبح فارغةً من الجهاديين والإرهابيين، وكذلك عليها الموافقة الكاملة على تدخلٍ تركي واسعٍ، شبيه بمنطقة درع الفرات وغصن الزيتون. وهذا مما تمتنع عنه، وهو ما حاولته معها مراراً تركيا بالدبلوماسية والهدوء واللين والتفاوض، ولكن تسليم إدلب لقيادة تركيا لم يعد أمراً قابلاً للنقاش، وفقاً لاتفاقية أستانة وعالمياً. النقاش الدولي بين كل من تركيا وروسيا وإيران، وبدرجة أقل مع أميركا، جميع هذه الدول والشعب السوري يرفضون أي وجود لجبهة فتح الشام، وبالتالي أصبحت المهمة الراهنة هي تفكيك هذه الجبهة؛ فهل تفكّك نفسها، وتقوم بترحيل الجهاديين، وتسليم إدلب إلى أهلها أو لتركيا أو للفصائل، مثل الجبهة الوطنية للتحرير التي تتأهل لدخول إدلب، وهذا يعني أن حرباً واقعة لا محالة ضدّها. إذاً تقرّر مصير إدلب، ولن تفيد بشيء مناورات وألاعيب جديدة، فإما أن تدخل تركيا إليها أو روسيا، وربما الاثنتان تُرتبان الوضع النهائي للمدينة، وهو وضعٌ سابق للحل السياسي! ومن المستبعد دخول قوات التحالف بقيادة أميركا وحليفتها قوات سورية الديمقراطية.
أُفرج عن سجناء صيدنايا إذاً لتصفية الثورة وتخريبها وإعادة تعويم النظام؛ أليس هذا ما حصل؟ إن تحميل الأطراف الإقليمية أو الدولية أو المعارضة هزيمة الثورة، وسوى ذلك كثير لا يُفيد في التغطية على دور الحركات الجهادية، ولا سيما جبهة النصرة؛ فلهذه الأطراف نصيبها في هزيمة الثورة، وللجهادية والسلفية نصيبها، وقبل الجميع يتحمل النظام مسؤولية كل مآلات سورية الراهنة.