13 نوفمبر 2024
خيارات إدلب ومستقبلها [1-2]
لم تتأخر محافظة إدلب في سورية عن الانخراط في الثورة؛ فهي تشبه في ذلك حمص وبانياس وبعض أحياء اللاذقية وريف دمشق ودرعا ودير الزور، وغيرها. ظلت دمشق وحلب بعيدتين، وكذلك محافظات السويداء وطرطوس وأغلبية أحياء اللاذقية. وللانخراط والابتعاد أسبابهما المتعدّدة، وهناك نقاشات تناولها السوريون كثيراً، وتفضي إلى أسباب طبقية ودينية وطائفية. الأسباب نفسها هذه طرأت عليها تعديلات مع مرور ثمان سنوات على الثورة.
مشكلات إدلب
لمحافظة إدلب مشكلات سياسية واقتصادية؛ فسياسياً هي بحكم المهمّشة أكثر من المدن الأخرى، وحصلت فيها مجازر كبيرة تلت مجزرة حماه في الثمانينيات. وكانت من المدن المغضوب عليها اقتصادياً كما حماه؛ فلم يكن فيها أي شكل من الاستثمارات الحكومية أو حتى الخاصة. هي مدينة مهمّشة، يتكئُ النظام عليها في وظائف هامشية في الدولة، تخص الشرطة والوظائف الدنيا في الجيش والجمارك بشكل خاص. على الرغم من ذلك كله، لم يكن في هذه المدينة مواقع عسكرية ضخمة، كما حال حمص أو درعا مثلاً؛ فالقطع العسكرية كانت أيضاً هامشية، وهذا مهم لجهة كيفية تطوّر الثورة فيها.
قبل الثورة، كان هناك نهوضٌ زراعيٌّ يخصّ زراعة الأشجار، وهو أمر عام في سورية. وعلى الرغم من ذلك، عانت أغلبية سكانها من الإفقار الواسع، وكانت تتكئُ على لبنان أيضاً، فسافر إليه مئات الألوف من شبابها بقصد العمل، ومنهم مثلاً جمال معروف، الذي عاد مع بدء الثورة، ثم صار القائد العام لجبهة ثوار سورية، والأسوأ أنه ليس عسكرياً ولا حاصلاً على شهادات جامعية معتبرة! طبعاً لم تكن في سورية احتجاجات شعبية واسعة قبل الثورة، ولم يعرف السوريون بعضهم بعضاً، وبالتالي انزوت المدن بقضاياها، وعَظّمَ النظام من شأن المحليات والعائلية والتديّن والطائفية والذكورية، والانتهازية والطقوس في ذلك كله، وبالتالي أصبح النفوذ والهيبة مرتبطين بهذه العقليات وبالفساد المعمم عبر الدولة.
الثورة فاجأت الشعب
فاجأت الثورة الشعب، فليس من سوريٍّ كانت يتوقعها، وربما باستثناء قلّةٍ كانت تراقب الإفقار وسياسات الخصخصة التي تفضي إلى فوارق طبقية كبيرة؛ حتى هؤلاء المراقبين لم يكونوا واعين لتأثير تطورات ما قبل الثورة والتشكّل الاجتماعي قبلها، وشكل الوعي حينها، وكذلك لم يعوا جيداً الخيارات التي سينتهجها النظام الشمولي في مواجهة الثورة. لم تتم دراسة المسألة هذه، فما هي طبيعة النظام السوري، والتي سمحت له برفض الاستجابة لمطالب الشعب والاتكاء على الخيار الأمني والعسكري خيارا وحيدا، والاعتماد على المليشيات الطائفية الخارجية والداخلية، والتي لا علاقة لها بمؤسسات الدولة، وبالنهاية تسليم البلاد لدولٍ أجنبية، كإيران وروسيا، وذلك مقابل البقاء في السلطة، أي التضحية ليس بالشعب، بل بالبلاد، من أجل ديمومة السلطة.
إدلب المرهقة اقتصادياً، فلا استثمارات حكومية أو خاصة، المدينة المسمّاة مدينة المدن المنسية، والتي فيها أكثر من 500 موقع أثري (وفق الويكيبيديا)، لم تنل أي اهتمام سياحي، والأمر نفسه في بقية المدن، علماً أن سورية، وليس إدلب فقط، يمكنها أن تنهض وتتطور، اعتماداً على السياحة والآثار، وهي ميزةٌ ليست متوفرة في دولٍ كثيرة. المهم أنه على الرغم من ذلك الإرهاق، تأثرت المدينة بنتائج السياسة الليبرالية التي اعتمدها النظام سياسة عامة للدولة مع عام 2000. وبالتالي، تجمَّد التطور الزراعي، وأصبحت كلفته عالية، وبرز فقر كبير، وعمالة في لبنان، وأزمة سياسية لم تحل منذ الثمانينيات، ومجازر واعتقالات قديمة، لم تجد لها حلاً أبداً؛ الأسوأ من هذا كله أن النظام قدّم أجهزة أمنه كأنّها تمثل الطائفة العلوية، وبالتالي تشكّلت نقمة عامة، خافية ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وتنتظر أن تتفجر.
مظاهرات إدلب وحادثة جسر الشغور
لم تتوقف المظاهرات منذ بدأت في الأشهر الأولى في إدلب، لكن ضعف وجود قطع عسكرية، وحتى الوجود الأمني الذي كان هشّاً، ساهم في تطور خاص في المدينة، ولم تستفد المعارضة من مجزرة جسر الشغور في يونيو/ حزيران 2011، وتمّت في فرع الأمن العسكري، وقتل فيها أكثر من 80 شخصا، وقتل 40 شخصا في الوقت نفسه كانوا قادمين للمؤازرة؛ وأسست تلك الحادثة لبذور طائفية لم يتم لجمها أبداً، فأغلبية القتلى من الطائفة العلوية، والذين ارتكبوا المجزرة من الطائفة السنية. تركهم النظام ليُقتلوا وليستثمر في ذلك، ولم تندّد المعارضة بشكل كامل بها، وبالتالي النظام والمعارضة سقيا الطائفية مجدّداً. طبعاً حدثت وقائع في حمص وبانياس واللاذقية، وكان هدفها كلها تغليب الطائفية على الثورة، وتحويلها إلى اقتتال طائفي، وليس شعبيا، ومن أجل نظام أفضل.
ردّ النظام حينها باجتياح جسر الشغور وأريحا ومعرّة النعمان وكانت مدينة إدلب تحت سيطرته، وكرّر اجتياحاته مرات عديدة طوال العام 2012، وبعدها لم يعد قادرا على ذلك، فانسحب وتمركز في مناطق بعيدة عن بلدات الداخل، لكنه بقي في إدلب المدينة حتى 2015، حيث تمّ طرده عبر جيش الفتح، والذي تشكل من جبهة النصرة و"أحرار الشام" بشكل رئيسي.
توسّعت المظاهرات، بعد أن بدأت في إدلب في أوائل إبريل/ نيسان، ولم تتوقف بعدها، حتى قورنت بتظاهرات درعا. وكما جرى في درعا خصوصا، بدأت تتشكل نوى صغيرة للجيش الحر، ولم ينتهِ 2011 إلا وقد ظهرت، وتلتها بالتشكل حركة أحرار الشام بقيادة جهاديين أُطلق سراحهم من سجن صيدنايا. ومع بداية 2012، ظهرت جبهة النصرة هناك. المهم ألا ننسى مسألتين هنا، فقد أطلق النظام في يونيو/ حزيران 2011 مئات الجهاديين، ومنهم من اعتقلهم إثر العام 2003، وحينها كانوا ينضوون في إطار تنظيم جند الشام، وقد انتعشت حينها الحاجة للجهاديين لتخريب المقاومة العراقية، وتسهيل مهمة الاحتلال الأميركي، وقد شارك جهاديون سوريون فيها، وبعودتهم تمّ اعتقال الأغلبية؛ هؤلاء وسواهم أُطلق سراحهم، وبرز منهم قادة جهاديون وسلفيون، شكلوا أخطر التنظيمات الإسلامية، مثل زهران علوش (جيش الإسلام)، وأبو محمد الجولاني (جبهة النصرة)، وأبو عيسى الشيخ (صقور الشام). لم يهتم الإسلاميون والسلفيون بالمظاهرات وتطويرها، ولم ينخرطوا في إطار فصائل الجيش الحر، وتمّ، في الوقت نفسه، إقصاء الضباط المنشقين، وأبعد معظمهم عن العمل العسكري. ويمكن تذكّر ظاهرة المقدم حسين هرموش و"لواء الضباط الأحرار"، وقد صُفيت حركتهم بالتعاون بين النظام وجهات إقليمية ومحلية معارضة! إذاً لنتأمل المشهد هنا، قلّة في القطع العسكرية للنظام، وتحرير معظم المناطق بأيدي الجيش الحر، وغياب أعمال مؤسّسية للثوار الأوائل؛ لدى الجهاديين والسلفيين رؤية ثابتة للحياة، تخصّ العسكرة والقضاء والأمن، وهناك الإمداد المالي الخارجي، وبذلك تقدّمت هذه الفصائل على بقية الفصائل، بسرعة وسهولة، وقضت عليها.
شعبية الثورة وآلية تخريبها
تكمن مشكلة الثورة في سورية، كاحتجاجات شعبية عارمة، وردّاً على وضع اقتصادي واجتماعي مزرٍ، في أنّها واجهت نظاماً لا يقيم للشعب ولا للبلاد وزناً، ولا يفكر بحلٍّ تصالحي مع الشعب، وكذلك لم تتبنّ المعارضة مشروعاً وطنياً لكل مشكلات سورية، فكانت "تثرثر" بالديمقراطية كأنها سحر، وبها يتحقّق النهوض والانتقال السياسي، ويُكمّل ذلك ولعها بفكرة استجلاب الدعم الخارجي. عانت الثورة في كل مدن سورية من ذلك، واعتقدت هي والمعارضة أن النظام سيسقط سريعاً، كما حال تونس ومصر. وكان طبيعيا ألا تستطيع الثورة الشعبية طرح بديل سياسي متكامل لمشكلات سورية، فقد قادها شبابٌ لم يعايشوا أية حياة سياسية أو ثقافية أو فكرية ديمقراطية، ولم يكن يُعترَف للسوريين بأية حقوق سياسية. في ظل وعيٍ كهذا، فإن الوعي الثوري بضرورة إسقاط النظام، أو إصلاحه، لم يشكل مرجعية لتطوير رؤية الثورة، وكلما تأخر سقوط النظام، راح يتقدّم الشكل السائد للوعي السابق للثورة، أي العائلية والمناطقية والدينية والطائفية والعشائرية. ومع توسع الثورة، وتحريرها مختلف المناطق، كان لا بد من محاصرتها، وهنا "تحالف" النظام والدول الإقليمية والعالمية على فتح الحدود السورية لجماعات جهادية تخريبية، جُرّبت من قبل في العراق، ودُرس دورها في تدمير البلاد في أفغانستان وسواها، وبالتالي لا يمكن إيقاف المدّ الثوري من دون ذلك. وفي هذه النقطة، يمكن قراءة التصريحات الإيرانية عن دورهم في إنقاذ النظام من السقوط وتثبيته، وكذلك التصريحات الروسية بخصوص الفكرة ذاتها، أقصد إن غياب برنامج للمعارضة وفاشية النظام والجهاديين جميعاً لم يوقِف الثورة، فكان التدخل الإقليمي والدولي، وهذا ما حاصرها وشوّهها، ولعبت فوضى المال والسلاح والأسلمة دوراً مركزياً في إفشال الثورة. إدلب النائمة على ثارات من أزمة الثمانينيات، ومعتقلين سلفيين وجهاديون منذ 2003، وتيارات سياسية معارضة قديمة "ليبرالية وشيوعية"، أقول إن كل هذه العناصر، مع غياب برنامج يجمعها أو قيادة، وهو أمرٌ عام في سورية، ومع كل ذلك التشتت، سمحت للنظام باستعادة المدينة مراتٍ، حتى سقطت نهائياً في 2015 بواسطة "جيش الفتح"، وبدعم إقليمي كبير، ولكن ذلك كله لم يسمح بنشوء تكتلات شعبية ثورية وموحدة، ولديها الأهداف نفسها.
أسباب تقدّم الجهاديين
تطورت الاحتجاجات في مدينة إدلب، وازدادت أعداد المشاركين فيها، لكن النظام فشل في استعادة البلدات، ولا سيما بعد منتصف 2012، وحدثت مجازر كبرى في البلدات، وتعاظمت أعداد المعتقلين، والأسوأ بروزعدد هائل من الفصائل. وفي كل بلدة هناك أكثر من فصيل. وطرح ظهور الفصائل، ولا سيما بعد إفشال تجربة الضباط الأحرار، واعتقال قائدها، مسألة
العلاقة بين بعضها، ومرجعتيها، وعلاقتها بالشؤون المدنية للأهالي، وكذلك العلاقة العائلية والدينية والطائفية؛ فكيف سيتم تنظيم كل هذه القضايا، والمعارضة لم تكن تمتلك برنامجاً يتناول كل هذه القضايا، ما سمح للفصائل الأكثر تنظيماً ودعماً بالتقدّم سريعاً، وترافق ذلك مع غلبة الهويات الما قبل الوطنية على العقلية والمرجعية، واعتقال شباب التنسيقيات الأولى، وتلاقى هذا مع تدخل إقليمي لصالح تغليب هذه القضايا على العقلية الثورية، وحصر الثورة في سورية وتشويهها؛ قلت إن ذلك حقق مصلحة للنظام من ناحية، ولتلك الدول من ناحية أخرى، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ لتياراتٍ في المعارضة.
مع تشدّد النظام بالقمع وتوسع استخدام مختلف أشكال السلاح، ومنها المدفعي والدبابات والكيميائي والطيران وسواه، ورفض أية واسطة عربية أو دولية لتقديم العقل والسياسة، مالت أغلبية الفئات الثورية والمدن المحاصرة للابتعاد عن النظام. التفتُّت والفساد والقتل العشوائي والتسليح وغياب الرؤية الثورية، وتململ الشعب من تلك الممارسات، ساعد السلفيين والجهاديين بالتشكل والتوسع، ولا سيما أنهم ادّعوا التديّن، ولم يتدخلوا بشؤون الناس فوراً؛ في هذه النقطة، وباعتبار أن لإدلب امتدادا كبيرا مع تركيا، وشرقها أرياف حلب وغربها أرياف اللاذقية وشمالها ريف حماه، وكلّها خارجة عن النظام، وكذلك معظم الجغرافيا السورية، أقول ضمن هذا الإطار، كان سهلاً على الجهاديين التقدّم سريعاً، والبدء بقضم الكتائب، ولا سيما أن أغلبية الفصائل الجهادية نشأت في إطار حركة أحرار الشام، وانفصلت عنها "أو الصمت عنها". ويشكّل ضعف التنظيم بهذه الحركة، وكذلك الدخول الخارجي على خط تشكيل فروع لتنظيم القاعدة، سبباً في تصاعد ذلك المناخ. وبالتالي تقدّمت الجهادية المالكة لمشروع إسلامي متطرّف، ويتناول كل شؤون الحياة، وهذا شكّل مرحلة جديدة في تطور الثورة، عبر حركات مضادة للثورة، وبهدف تخريبها وتشويهها، وتسهيل مهمة دحرها؛ حيث كَفّرت حركة أحرار الشام، في بداياتها، الفصائل الثورية، ورفضت الانخراط فيها، ورفعت علمها الخاص، ولم تضع نفسها في إطار العمل السياسي للمعارضة أو للثورة. فللأحرار مشروعٌ سياسيٌّ مختلف، وهو مشروعٌ جهاديٌّ، ويريد إقامة دولة إسلامية. وقد ساعد ضعف الأحرار في بروز حركات أكثر تطرّفاً، كجبهة النصرة و"داعش" وجند الأقصى، وساعد في ذلك وصول المجاهدين العرب الخبراء في كل أشكال الغلو والتطرّف.
وسمحت قوة الثورة ووجودها في مختلف بلدات إدلب وسورية، بتعدّد كبير في الفصائل الثورية، وكذلك في الحركات الجهادية والسلفية، وهذا ما منع بروز قيادة موحّدة للعمل السياسي أو العسكري أو الإغاثي أو الإعلامي. أراد النظام ذلك، والإخوان المسلمون أيضاً، ومختلف قيادات هذه الحركات، فهي تريد القيادة لها، وهناك التدخل الإقليمي والدولي، وهذا ما ساهم بالتدريج بهيمنة الجهادية وسحق الفصائل. ولم نصل إلى عام 2015 إلا وكانت مختلف فصائل الجيش الحر قد تلاشت، أو أصبحت في تركيا أو ضعفت، وهذا أدى إلى هيمنة جبهة النصرة و"فتح الشام" على معظم إدلب، وبشكل أخفّ حركة أحرار الشام التي تراجع وجودها في 2017. وسيتطرّق الجزء الثاني من هذه المطالعة إلى كيفية تشكل أحرار الشام وجبهة النصرة و"داعش" وجند الأقصى، وتلاشي بعض هذه الفصائل وتشكل مجموعات أخرى.
مشكلات إدلب
لمحافظة إدلب مشكلات سياسية واقتصادية؛ فسياسياً هي بحكم المهمّشة أكثر من المدن الأخرى، وحصلت فيها مجازر كبيرة تلت مجزرة حماه في الثمانينيات. وكانت من المدن المغضوب عليها اقتصادياً كما حماه؛ فلم يكن فيها أي شكل من الاستثمارات الحكومية أو حتى الخاصة. هي مدينة مهمّشة، يتكئُ النظام عليها في وظائف هامشية في الدولة، تخص الشرطة والوظائف الدنيا في الجيش والجمارك بشكل خاص. على الرغم من ذلك كله، لم يكن في هذه المدينة مواقع عسكرية ضخمة، كما حال حمص أو درعا مثلاً؛ فالقطع العسكرية كانت أيضاً هامشية، وهذا مهم لجهة كيفية تطوّر الثورة فيها.
قبل الثورة، كان هناك نهوضٌ زراعيٌّ يخصّ زراعة الأشجار، وهو أمر عام في سورية. وعلى الرغم من ذلك، عانت أغلبية سكانها من الإفقار الواسع، وكانت تتكئُ على لبنان أيضاً، فسافر إليه مئات الألوف من شبابها بقصد العمل، ومنهم مثلاً جمال معروف، الذي عاد مع بدء الثورة، ثم صار القائد العام لجبهة ثوار سورية، والأسوأ أنه ليس عسكرياً ولا حاصلاً على شهادات جامعية معتبرة! طبعاً لم تكن في سورية احتجاجات شعبية واسعة قبل الثورة، ولم يعرف السوريون بعضهم بعضاً، وبالتالي انزوت المدن بقضاياها، وعَظّمَ النظام من شأن المحليات والعائلية والتديّن والطائفية والذكورية، والانتهازية والطقوس في ذلك كله، وبالتالي أصبح النفوذ والهيبة مرتبطين بهذه العقليات وبالفساد المعمم عبر الدولة.
الثورة فاجأت الشعب
فاجأت الثورة الشعب، فليس من سوريٍّ كانت يتوقعها، وربما باستثناء قلّةٍ كانت تراقب الإفقار وسياسات الخصخصة التي تفضي إلى فوارق طبقية كبيرة؛ حتى هؤلاء المراقبين لم يكونوا واعين لتأثير تطورات ما قبل الثورة والتشكّل الاجتماعي قبلها، وشكل الوعي حينها، وكذلك لم يعوا جيداً الخيارات التي سينتهجها النظام الشمولي في مواجهة الثورة. لم تتم دراسة المسألة هذه، فما هي طبيعة النظام السوري، والتي سمحت له برفض الاستجابة لمطالب الشعب والاتكاء على الخيار الأمني والعسكري خيارا وحيدا، والاعتماد على المليشيات الطائفية الخارجية والداخلية، والتي لا علاقة لها بمؤسسات الدولة، وبالنهاية تسليم البلاد لدولٍ أجنبية، كإيران وروسيا، وذلك مقابل البقاء في السلطة، أي التضحية ليس بالشعب، بل بالبلاد، من أجل ديمومة السلطة.
إدلب المرهقة اقتصادياً، فلا استثمارات حكومية أو خاصة، المدينة المسمّاة مدينة المدن المنسية، والتي فيها أكثر من 500 موقع أثري (وفق الويكيبيديا)، لم تنل أي اهتمام سياحي، والأمر نفسه في بقية المدن، علماً أن سورية، وليس إدلب فقط، يمكنها أن تنهض وتتطور، اعتماداً على السياحة والآثار، وهي ميزةٌ ليست متوفرة في دولٍ كثيرة. المهم أنه على الرغم من ذلك الإرهاق، تأثرت المدينة بنتائج السياسة الليبرالية التي اعتمدها النظام سياسة عامة للدولة مع عام 2000. وبالتالي، تجمَّد التطور الزراعي، وأصبحت كلفته عالية، وبرز فقر كبير، وعمالة في لبنان، وأزمة سياسية لم تحل منذ الثمانينيات، ومجازر واعتقالات قديمة، لم تجد لها حلاً أبداً؛ الأسوأ من هذا كله أن النظام قدّم أجهزة أمنه كأنّها تمثل الطائفة العلوية، وبالتالي تشكّلت نقمة عامة، خافية ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وتنتظر أن تتفجر.
مظاهرات إدلب وحادثة جسر الشغور
لم تتوقف المظاهرات منذ بدأت في الأشهر الأولى في إدلب، لكن ضعف وجود قطع عسكرية، وحتى الوجود الأمني الذي كان هشّاً، ساهم في تطور خاص في المدينة، ولم تستفد المعارضة من مجزرة جسر الشغور في يونيو/ حزيران 2011، وتمّت في فرع الأمن العسكري، وقتل فيها أكثر من 80 شخصا، وقتل 40 شخصا في الوقت نفسه كانوا قادمين للمؤازرة؛ وأسست تلك الحادثة لبذور طائفية لم يتم لجمها أبداً، فأغلبية القتلى من الطائفة العلوية، والذين ارتكبوا المجزرة من الطائفة السنية. تركهم النظام ليُقتلوا وليستثمر في ذلك، ولم تندّد المعارضة بشكل كامل بها، وبالتالي النظام والمعارضة سقيا الطائفية مجدّداً. طبعاً حدثت وقائع في حمص وبانياس واللاذقية، وكان هدفها كلها تغليب الطائفية على الثورة، وتحويلها إلى اقتتال طائفي، وليس شعبيا، ومن أجل نظام أفضل.
ردّ النظام حينها باجتياح جسر الشغور وأريحا ومعرّة النعمان وكانت مدينة إدلب تحت سيطرته، وكرّر اجتياحاته مرات عديدة طوال العام 2012، وبعدها لم يعد قادرا على ذلك، فانسحب وتمركز في مناطق بعيدة عن بلدات الداخل، لكنه بقي في إدلب المدينة حتى 2015، حيث تمّ طرده عبر جيش الفتح، والذي تشكل من جبهة النصرة و"أحرار الشام" بشكل رئيسي.
توسّعت المظاهرات، بعد أن بدأت في إدلب في أوائل إبريل/ نيسان، ولم تتوقف بعدها، حتى قورنت بتظاهرات درعا. وكما جرى في درعا خصوصا، بدأت تتشكل نوى صغيرة للجيش الحر، ولم ينتهِ 2011 إلا وقد ظهرت، وتلتها بالتشكل حركة أحرار الشام بقيادة جهاديين أُطلق سراحهم من سجن صيدنايا. ومع بداية 2012، ظهرت جبهة النصرة هناك. المهم ألا ننسى مسألتين هنا، فقد أطلق النظام في يونيو/ حزيران 2011 مئات الجهاديين، ومنهم من اعتقلهم إثر العام 2003، وحينها كانوا ينضوون في إطار تنظيم جند الشام، وقد انتعشت حينها الحاجة للجهاديين لتخريب المقاومة العراقية، وتسهيل مهمة الاحتلال الأميركي، وقد شارك جهاديون سوريون فيها، وبعودتهم تمّ اعتقال الأغلبية؛ هؤلاء وسواهم أُطلق سراحهم، وبرز منهم قادة جهاديون وسلفيون، شكلوا أخطر التنظيمات الإسلامية، مثل زهران علوش (جيش الإسلام)، وأبو محمد الجولاني (جبهة النصرة)، وأبو عيسى الشيخ (صقور الشام). لم يهتم الإسلاميون والسلفيون بالمظاهرات وتطويرها، ولم ينخرطوا في إطار فصائل الجيش الحر، وتمّ، في الوقت نفسه، إقصاء الضباط المنشقين، وأبعد معظمهم عن العمل العسكري. ويمكن تذكّر ظاهرة المقدم حسين هرموش و"لواء الضباط الأحرار"، وقد صُفيت حركتهم بالتعاون بين النظام وجهات إقليمية ومحلية معارضة! إذاً لنتأمل المشهد هنا، قلّة في القطع العسكرية للنظام، وتحرير معظم المناطق بأيدي الجيش الحر، وغياب أعمال مؤسّسية للثوار الأوائل؛ لدى الجهاديين والسلفيين رؤية ثابتة للحياة، تخصّ العسكرة والقضاء والأمن، وهناك الإمداد المالي الخارجي، وبذلك تقدّمت هذه الفصائل على بقية الفصائل، بسرعة وسهولة، وقضت عليها.
شعبية الثورة وآلية تخريبها
تكمن مشكلة الثورة في سورية، كاحتجاجات شعبية عارمة، وردّاً على وضع اقتصادي واجتماعي مزرٍ، في أنّها واجهت نظاماً لا يقيم للشعب ولا للبلاد وزناً، ولا يفكر بحلٍّ تصالحي مع الشعب، وكذلك لم تتبنّ المعارضة مشروعاً وطنياً لكل مشكلات سورية، فكانت "تثرثر" بالديمقراطية كأنها سحر، وبها يتحقّق النهوض والانتقال السياسي، ويُكمّل ذلك ولعها بفكرة استجلاب الدعم الخارجي. عانت الثورة في كل مدن سورية من ذلك، واعتقدت هي والمعارضة أن النظام سيسقط سريعاً، كما حال تونس ومصر. وكان طبيعيا ألا تستطيع الثورة الشعبية طرح بديل سياسي متكامل لمشكلات سورية، فقد قادها شبابٌ لم يعايشوا أية حياة سياسية أو ثقافية أو فكرية ديمقراطية، ولم يكن يُعترَف للسوريين بأية حقوق سياسية. في ظل وعيٍ كهذا، فإن الوعي الثوري بضرورة إسقاط النظام، أو إصلاحه، لم يشكل مرجعية لتطوير رؤية الثورة، وكلما تأخر سقوط النظام، راح يتقدّم الشكل السائد للوعي السابق للثورة، أي العائلية والمناطقية والدينية والطائفية والعشائرية. ومع توسع الثورة، وتحريرها مختلف المناطق، كان لا بد من محاصرتها، وهنا "تحالف" النظام والدول الإقليمية والعالمية على فتح الحدود السورية لجماعات جهادية تخريبية، جُرّبت من قبل في العراق، ودُرس دورها في تدمير البلاد في أفغانستان وسواها، وبالتالي لا يمكن إيقاف المدّ الثوري من دون ذلك. وفي هذه النقطة، يمكن قراءة التصريحات الإيرانية عن دورهم في إنقاذ النظام من السقوط وتثبيته، وكذلك التصريحات الروسية بخصوص الفكرة ذاتها، أقصد إن غياب برنامج للمعارضة وفاشية النظام والجهاديين جميعاً لم يوقِف الثورة، فكان التدخل الإقليمي والدولي، وهذا ما حاصرها وشوّهها، ولعبت فوضى المال والسلاح والأسلمة دوراً مركزياً في إفشال الثورة. إدلب النائمة على ثارات من أزمة الثمانينيات، ومعتقلين سلفيين وجهاديون منذ 2003، وتيارات سياسية معارضة قديمة "ليبرالية وشيوعية"، أقول إن كل هذه العناصر، مع غياب برنامج يجمعها أو قيادة، وهو أمرٌ عام في سورية، ومع كل ذلك التشتت، سمحت للنظام باستعادة المدينة مراتٍ، حتى سقطت نهائياً في 2015 بواسطة "جيش الفتح"، وبدعم إقليمي كبير، ولكن ذلك كله لم يسمح بنشوء تكتلات شعبية ثورية وموحدة، ولديها الأهداف نفسها.
أسباب تقدّم الجهاديين
تطورت الاحتجاجات في مدينة إدلب، وازدادت أعداد المشاركين فيها، لكن النظام فشل في استعادة البلدات، ولا سيما بعد منتصف 2012، وحدثت مجازر كبرى في البلدات، وتعاظمت أعداد المعتقلين، والأسوأ بروزعدد هائل من الفصائل. وفي كل بلدة هناك أكثر من فصيل. وطرح ظهور الفصائل، ولا سيما بعد إفشال تجربة الضباط الأحرار، واعتقال قائدها، مسألة
مع تشدّد النظام بالقمع وتوسع استخدام مختلف أشكال السلاح، ومنها المدفعي والدبابات والكيميائي والطيران وسواه، ورفض أية واسطة عربية أو دولية لتقديم العقل والسياسة، مالت أغلبية الفئات الثورية والمدن المحاصرة للابتعاد عن النظام. التفتُّت والفساد والقتل العشوائي والتسليح وغياب الرؤية الثورية، وتململ الشعب من تلك الممارسات، ساعد السلفيين والجهاديين بالتشكل والتوسع، ولا سيما أنهم ادّعوا التديّن، ولم يتدخلوا بشؤون الناس فوراً؛ في هذه النقطة، وباعتبار أن لإدلب امتدادا كبيرا مع تركيا، وشرقها أرياف حلب وغربها أرياف اللاذقية وشمالها ريف حماه، وكلّها خارجة عن النظام، وكذلك معظم الجغرافيا السورية، أقول ضمن هذا الإطار، كان سهلاً على الجهاديين التقدّم سريعاً، والبدء بقضم الكتائب، ولا سيما أن أغلبية الفصائل الجهادية نشأت في إطار حركة أحرار الشام، وانفصلت عنها "أو الصمت عنها". ويشكّل ضعف التنظيم بهذه الحركة، وكذلك الدخول الخارجي على خط تشكيل فروع لتنظيم القاعدة، سبباً في تصاعد ذلك المناخ. وبالتالي تقدّمت الجهادية المالكة لمشروع إسلامي متطرّف، ويتناول كل شؤون الحياة، وهذا شكّل مرحلة جديدة في تطور الثورة، عبر حركات مضادة للثورة، وبهدف تخريبها وتشويهها، وتسهيل مهمة دحرها؛ حيث كَفّرت حركة أحرار الشام، في بداياتها، الفصائل الثورية، ورفضت الانخراط فيها، ورفعت علمها الخاص، ولم تضع نفسها في إطار العمل السياسي للمعارضة أو للثورة. فللأحرار مشروعٌ سياسيٌّ مختلف، وهو مشروعٌ جهاديٌّ، ويريد إقامة دولة إسلامية. وقد ساعد ضعف الأحرار في بروز حركات أكثر تطرّفاً، كجبهة النصرة و"داعش" وجند الأقصى، وساعد في ذلك وصول المجاهدين العرب الخبراء في كل أشكال الغلو والتطرّف.
وسمحت قوة الثورة ووجودها في مختلف بلدات إدلب وسورية، بتعدّد كبير في الفصائل الثورية، وكذلك في الحركات الجهادية والسلفية، وهذا ما منع بروز قيادة موحّدة للعمل السياسي أو العسكري أو الإغاثي أو الإعلامي. أراد النظام ذلك، والإخوان المسلمون أيضاً، ومختلف قيادات هذه الحركات، فهي تريد القيادة لها، وهناك التدخل الإقليمي والدولي، وهذا ما ساهم بالتدريج بهيمنة الجهادية وسحق الفصائل. ولم نصل إلى عام 2015 إلا وكانت مختلف فصائل الجيش الحر قد تلاشت، أو أصبحت في تركيا أو ضعفت، وهذا أدى إلى هيمنة جبهة النصرة و"فتح الشام" على معظم إدلب، وبشكل أخفّ حركة أحرار الشام التي تراجع وجودها في 2017. وسيتطرّق الجزء الثاني من هذه المطالعة إلى كيفية تشكل أحرار الشام وجبهة النصرة و"داعش" وجند الأقصى، وتلاشي بعض هذه الفصائل وتشكل مجموعات أخرى.