يُعَدّ قطاع التعليم من أكثر القطاعات تضرراً في خلال الحرب السورية، وهو ما يؤكده تراجع العملية التعليمية في البلاد، لا سيّما في مجال التعليم الجامعي. ويمثّل الأمر تحدياً كبيراً.
بعد انسحاب قوات النظام السوري وكذلك مؤسساته الحكومية، لا سيّما التعليمية، من مناطق واسعة عُدَّت محرّرة، وجد آلاف الطلاب السوريين الجامعيين أو المقبلين على مرحلة التعليم الجامعي أنفسهم من دون مقاعد دراسية. فكانت حاجة إلى السعي نحو بديل للتعليم العالي يعيد هؤلاء الطلاب من جديد إلى الدراسة، في ظل عدم قدرة معظمهم على التسجيل في الجامعات الموجودة من ضمن مناطق سيطرة النظام، خوفاً من الاعتقال والممارسات القمعية اللذَين تمارسهما الأجهزة الأمنية وكثيراً ما يكونان انطلاقاً من هوية الشخص ومكان ولادته.
في مارس/ آذار من عام 2015، بعد تحرير محافظة إدلب بالكامل وتحرير أجزاء كبيرة من محافظة حلب، بدأت تظهر تجارب خاصة بالتعليم العالي لاستيعاب العدد الكبير من السوريين في تلك المناطق. كانت البداية مع إطلاق جامعة إدلب الحرة وجامعة حلب الحرة، مع الإشارة إلى أنّ الأولى كانت تتبع لما يعرف بإدارة خدمات "جيش الفتح" قبل أن تكون تحت جناح حكومة الإنقاذ التي يشير ناشطون إلى أنّها الوجه المدني لـ"جبهة النصرة". أمّا جامعة حلب الحرة، فكانت تابعة للحكومة السورية المؤقتة التي يترأسها الطبيب السوري جواد أبو حطب، وقد أنشأت منذ البدء بعملها في منتصف عام 2015 فروعاً عدّة لها في حلب وإدلب وريف حماة الشمالي، بالإضافة إلى الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي قبل سيطرة قوات النظام عليهما في إبريل/ نيسان الماضي.
الاحتمال الوحيد المتاح لهم (عامر السيد علي) |
وجامعة إدلب الحرة وجامعة حلب الحرة هما الجامعتان العامتان الوحيدتان العاملتان في المناطق المحررة، والتسجيل فيهما مفتوح أمام الطلاب الجدد أو هؤلاء المنقطعين عن الدراسة من جرّاء الحرب التي تشهدها البلاد. وهما تضمّان عدداً من التخصصات العلمية كالطب والصيدلة والهندسة بفروعها المختلفة، بالإضافة إلى التخصصات الأدبية كاللغات والحقوق والاقتصاد. يُذكر أنّ الجامعتَين ليستا مجانيتَين بالكامل، فرسوم التسجيل تراوح ما بين 150 دولاراً أميركياً و200.
في ظل عدم قدرة الجامعات العامة على استيعاب كل الطلاب السوريين في المناطق المحررة، ومع غياب قانون ناظم لعمل الجامعات وسلطة قانونية وعلمية تضبط العملية التعليمية، وجدت جهات ومنظمات كثيرة الطريق مفتوحاً أمامها للاستثمار في مجال التعليم في المناطق المحررة. وأنشئ في بلدات محافظة إدلب وريف حلب عدد من الجامعات الخاصة تحت أسماء مختلفة ولافتة لجذب أكبر عدد من الطلاب الذين ينظر إليهم أصحاب تلك "الجامعات - الشركات كزبائن وكمكاسب تجارية"، بحسب ما يقول الدكتور محمد منصور، وهو أكاديمي من مدينة دمشق يقيم في إدلب منذ خمسة أعوام. ويوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "تلك الجامعات بمعظمها تفتقر إلى أدنى المعايير التعليمية، وهي أقرب إلى المعاهد التدريبية"، مشيراً إلى أنّ "الجامعات الخاصة التي تنتشر في المناطق المحررة، ربّما لا تصح أبداً تسميتها بالجامعات، فهي لا تكاد تصل إلى مستوى معهد تدريبي". يضيف منصور أنّ "الهدف الأساس لتلك الجامعات هو الربح، وبعضها يستخدم أسماء براقة وقريبة من أسماء الجامعات العالمية بهدف خداع الطلاب وجذبهم إليها. يُضاف إلى ذلك ضعف المصداقية لدى إداراتها التي لا تكشف لطلابها أوراق تراخيصها الرسمية".
لا تتوقّف الانتقادات عند الحد الذي تناوله منصور، بل تمتد إلى حجم الرسوم التي تتقاضاها تلك الجامعات والتي تُعَدّ مرتفعة جداً بالمقارنة مع مستوى الدخل لدى السوريين في المناطق المحررة، الأمر الذي يجعل التعليم الجامعي لدى كثيرين منهم يتحوّل من الضروريات إلى الكماليات. وفي السياق، يشكو عامر محي الدين، وهو طالب سنة ثانية في كلية إدارة الأعمال التابعة إلى إحدى الجامعات الخاصة في ريف إدلب، من حجم المبالغ التي يضطر إلى دفعها سنوياً. ويقول لـ"العربي الجديد": "أنا لا أدرس في كلية علمية، وعلى الرغم من ذلك فإنّ التكاليف مرتفعة جداً. وقد اضطر أبي إلى بيع مساحة من الأرض حتى أكمل دراستي، إذ إنّ إدارة الجامعة تتقاضى منّي 1500 دولار سنوياً، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة إلى أمثالنا".
الاعتراف بالجامعات في المناطق المحررة يُعَدّ المشكلة الأبرز التي تواجه تلك المؤسسات التعليمية العامة والخاصة، الأمر الذي يجعل مستقبل عشرات آلاف الطلاب المسجّلين فيها مجهولاً. وتعبّر ربى عبد الكريم، طالبة صيدلة سنة ثانية في جامعة إدلب الحرة، عن تخوّفها من "ذهاب دراستي سدى، في حال بقاء حال الجامعة كما هي اليوم من دون اعتراف". وتقول لـ"العربي الجديد": "أنهيت دراستي الثانوية قبل عامَين بمعدّل ممتاز، وكانت الصيدلة رغبتي. لا أستطيع الدراسة في مناطق النظام، فوالدي من المعارضين وقد أتعرّض إلى الخطر بسبب ذلك. لذا، لم يكن أمامي حلّ إلا الالتحاق بجامعة إدلب الحرة، على الرغم من معرفتي بأنّها غير حاصلة على اعتراف، لكنّنا تلقينا وعوداً من الإدارة بأنّ الأمور سوف تتغيّر". تضيف: "لكنّني أخشى ألا يتغيّر شيء وأن أتخرج ثمّ تبقى جامعتنا من دون اعتراف. حينها، أكون قد أضعت خمسة أعوام من عمري مع كثير من الجهد والتعب والدراسة".
... ويأملون على الرغم من كلّ شيء (عامر السيد علي) |
من جهته، يروي سالم عبد الناصر لـ"العربي الجديد" عن "تجربتي المريرة مع إحدى الجامعات الخاصة التي تسجّلت فيها محاولاً إكمال دراستي الجامعية في الاقتصاد التي انقطعت عنها لأربعة أعوام بعدما انخرطت في الثورة السورية". يضيف أنّه "في بداية الثورة كنت في سنتي الدراسية الثالثة، وفي عام 2015 أردت استكمال تخصصي. فدلّني أحد الأصدقاء على إحدى الجهات التي تطلق على نفسها اسم جامعة خاصة في محافظتنا إدلب، فتسجّلت فيها لقاء مبلغ 1000 دولار. وبعد ستّة أشهر من التحاقنا بالدراسة، فوجئنا في أحد أيام الدوام بإغلاق الجامعة من دون إخطارنا. لا يكفي أنّني خسرت ما دفعته من مال، لكنّني خسرت بالإضافة إلى ذلك ستّة أشهر من عمري". ويؤكد: "لم يعد لديّ ثقة بأيّ من الجامعات في المناطق المحررة، ولا أظن أنّ الاعتراف بها أمر ممكن في يوم".
وعن احتمال وجود جامعات معترف بها في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، يقول المتخصص في شؤون التعليم ومسؤول الشؤون الإدارية الأسبق في كلية الحقوق في جامعة درعا، سامح بيرقدار، لـ"العربي الجديد" أنّ "آلية إنشاء الجامعات والشروط التي تحتاجها للحصول على اعتراف دولي ليست أمراً سهلاً، فالأوضاع السياسية والأمنية في المناطق المحررة لا تسمح بوجود جامعات كهذه أو بتأسيس أخرى". يضيف بيرقدار أنّ "الحلّ الأفضل والفرصة المتاحة للطلاب السوريين هما ما يجري العمل عليه حالياً من فتح أفرع للجامعات التركية في المناطق المحررة"، مؤكداً أنّ "الاعتراف بالجامعات في المناطق المحررة أشبه بالحلم". ويتابع أنّ "الجامعات الخاصة التي تدّعي امتلاك اعتراف، إنّما كلامها غير موثوق ولا تنشر علناً أيّ وثائق تؤكد الأمر. بالتالي، فأنا أرى أنّ فتح جامعة حران فرعاً لها في ريف حلب الشمالي وما قد يتبع ذلك من خطوات مشابهة من قبل الجامعات التركية، سوف يكون حلاً ممتازاً للطلاب السوريين". وينصح بيرقدار "الطلاب الذين لا تتوفّر لديهم الفرصة لإكمال تعليمهم في جامعات بمناطقهم، التوجّه إلى الدراسة الافتراضية التي باتت مصدراً مهماً للعلوم. في العالم اليوم، جامعات افتراضية كثيرة تمنح شهادات معترفاً بها في كل دول العالم وفي اختصاصات كثيرة".
تجدر الإشارة إلى أنّ إحصاءات غير رسمية أعدّتها مؤسسات مدنية متخصصة في الأبحاث بيّنت أنّ عدد الشباب السوريين الحاصلين على الشهادة الثانوية وهم في مرحلة الدراسة الجامعية بالإضافة إلى المنقطعين عن الدراسة قد تجاوز 50 ألف طالب، 30 في المائة منهم فقط استطاعوا حجز مقعد جامعي لهم في الجامعات العامة. أمّا الآخرون فهم إمّا التحقوا بالجامعات الخاصة المستحدثة وإمّا ما زالوا يبحثون عن حل لاستكمال مشوارهم التعليمي الجامعي.