خوسيه ميغيل بويرتا.. الفكر الجمالي العربي من الجاهلية للأندلس

02 يونيو 2020
(خوسيه ميغيل بويرتا)
+ الخط -

إذا ما أخذنا في الحسبان أنَّ وجود جماليّة غربيّة قروسطيّة كان أمراً مشكوكاً فيه حتَّى وقت قريب، فإنَّ الجدل والنقاش والتشكيك بإمكان وجود جماليّة مكتوبة باللّغة العربيّة، إبَّان الفترة التاريخيّة نفسها، التي تدعى بالحقبة الكلاسيكيّة عربيّاً، أقوى وأعصف. فالجماليّة؛ كعلم ومنهج، كانت نتاج الاتباعيّة الأوروبيّة للقرن الثامن عشر، وقامت، في جوهرها، ليس على أساس مفاهيم الجمال والفنون فحسب، وإنَّما على أساس نظرة جديدة إلى العالم والإنسان الذي يعيش فيه. ومن ثمَّ يمكننا - بجانب الأسباب السياسية - الحديث عن مسوّغ جماليّ وفلسفيّ يفسّر أنَّ الجماليّة المولَّدة في الغرب لم تفهم، تقليديّاً، الجماليّة العربيّة-الإسلاميّة.

من ناحية، لأنَّ الفنَّ الإسلاميَّ عُدَّ - في كثير من الأحوال - فنّاً ثانويّاً بوصفه مجرَّد حرفة يدويّة سُخِّرت لأغراض ومبادئ دينيّة بحتة، أو كعناصر زخرفيّة مدهشة. ومن ناحية أخرى، لأنَّ الفكر الإسلاميَّ، بتنوّعاته المتعدّدة والمتأثرة بالصراعات الاجتماعيّة والتطوّر التاريخيّ لشعوب الإسلام، "فُهِمَ"، أوروبيّاً، بأنَّه مجرَّد تكرار مغشوش للفلسفة اليونانيّة أو مجرّد تكتُّل كلاميّ متلعثم يفتقر إلى أيّ عقلانيّة تميّز الفكر الأوروبيّ، ولا سيّما بعد عصرَي النهضة والأنوار. بهذا المعنى بقي كلٌّ من الفنِّ والفكر الإسلاميين خارج الشروط والظروف الّتي قام عليها علم الجمال في أوروبا بوصفه فنّاً لا مؤلّف له، غير إبداعيّ، حرفياً، قروسطيّاً، مجرّداً من المبادئ الإنسانية، ودينياً. وبالتالي يتناقض بشكل كامل مع العلمانيّة الأوروبيّة التي كانت قد شقَّت طريقها في أوروبا آنذاك.

ضمن هذا السياق يمكن لنا أن نفهم هذا الإجحاف الأوروبيّ في دراسة الفكر الجماليّ العربيّ-الإسلاميّ، ولا سيّما أنَّنا بمراجعة سريعة للدراسات والأبحاث والكتب الغربيّة سندرك عدم وجود ما يمكن تسميته "تاريخاً للفكر الجماليّ العربيّ والإسلاميّ"، مكتوباً بلغة غربيّة (وهذا أمر طبيعيّ إذا ما أخذنا في الحسبان الاهتمام القليل أو النادر بهذا الفكر، عربيّاً وإسلاميّاً، واقتصاره على مجرَّد قلَّة قليلة من الأبحاث العلميّة الجادَّة).

من هذه الضرورة الثقافيّة والعلميّة على حدٍّ سواء في دراسة الفكر الجماليّ العربيّ- الإسلاميّ، وسدّاً لهذه الفجوة الواسعة والعميقة، سواء في الشرق أم في الغرب، تأتي أهميَّة كتاب أستاذ تاريخ الفنّ بجامعة غرناطة، خوسيه ميغيل بويرتا بيلتشث، والمعروف بقارئ الحمراء؛ "تاريخ الفكر الجمالي العربي. الأندلس والجماليّة العربيّة الكلاسيكيّة"، الذي صدر في طبعة أولى سرعان ما نفدت عام 1997، ليعود بويرتا إلى الكتاب في العام 2018 - مستفيداً من ترجمته إلى الإنكليزيّة عن دار بريل الشهيرة في نيويورك - ويُصدر الطبعة الثانية المُحرَّرة والمنقَّحة والمزيدة، لكن هذه المرَّة عن دار نشر جامعة غرناطة، محقّقاً بذلك انتشاراً واسعاً، وليتحوّل الكتاب إلى مرجعيّة ثقافيّة، بحثيّة، وأكاديميّة في حقل الدراسات العربيّة والفنون في إسبانيا.


رحلة ممتدّة
من يركب موج هذا الكتاب، عليه أن يعرف أنَّ الرحلة طويلة، وأنَّها تمتدّ على مدى أحد عشر قرناً من تطوّر الفكر الجماليّ العربيّ والإسلاميّ، وبالتالي الثقافة والفنون المرتبطتين به. كذلك سيتمكَّن القارئ من التفاعل مع أسئلة صعبة لا يتردّد قارئ الحمراء في طرحها: ما هي أهمّ الملامح والمعالم والأماكن الّتي يحتلّها الجماليّ داخل الثقافة العربيّة والإسلاميّة عبر مراحلها التاريخيّة؟ كيف طوّر هذا الفكر مفاهيمه حول الفنون والجمال، حول التلقّي والتدفّق الجماليّ؟ وما هو دور الإنسان العربيّ في صياغة هذه المنظومة الجماليّة، وما هي أبرز معالم الهويَّة العربيَّة والإسلاميَّة في صياغة هذه الجماليّة الخاصّة؟ بالجرأة نفسها التي يطرح بها مؤلّف العمل هذه الأسئلة، نراه أيضاً يحاول الإجابة عنها عبر ألف صفحة يتألَّف منها الكتاب، مقدّماً ومبيّناً أدلَّة دامغة على وجود جماليّة عربيّة إسلاميّة خاصّة لها حساسيتها وبُعدها الإنسانيّ الذي لم يعرفه الغرب من قبل.

وهكذا، انطلاقاً من مفهوم الصيرورة التاريخيّة، يستهلُّ المؤلف رحلته في تقصّي خصائص هذه الجماليّة العربيّة بدءاً من عصر ما قبل الإسلام، مروراً بالإسلام ونزول الوحي والقرآن (القرن السابع)، ووصولاً إلى آخر قصائد قصر الحمراء في القرن الخامس عشر، مولياً اهتماماً خاصّاً بنصوص مفكّرين مثل الفارابي وابن سينا والغزالي والتوحيديّ شرقاً، ومفكّرين كابن رشد، وابن باجه، وابن طفيل، ومحيي الدين بن عربي، وابن خلدون من ناحية الأندلس والمغرب الإسلامي.

ومن الطبيعيّ أن ينتاب القارئَ شعورٌ بصعوبة القدرة على الإحاطة بهذه الفترة الزمنيَّة الطويلة وكلّ ما تخلّلها من تغيّرات بنيويّة واجتماعيّة؛ ولا سيّما أنَّنا نتحدَّث عن حضارة انتقلت من الترحّل إلى الاستقرار وبناء دولة إسلاميّة توسَّعت وتفاعلت مع ثقافات وحضارات أخرى، غير أنَّ خوسيه ميغيل تمكَّن بجديّة الباحث من التوقّف عند أهمّ المحطّات التاريخيّة، مبرزاً؛ منذ القرون الأولى لعصر ما قبل الإسلام حتّى ظهور النبيّ محمَّد والقرآن، مروراً بحركة الترجمة والانفتاح على حضارات أخرى كاليونانيّة بشكل خاصّ، العناصرَ المتناغمة حيناً والمتناقضة في ما بينها حيناً آخر، التي شكّلت الهويَّة الجماليّة للإنسان العربيّ وحساسيته التي صاغها بمفردات خاصّة تُرجمت على أرض الواقع عبر إنسانيّة عربيّة وإسلاميّة فريدة، عكست، بدورها، رؤيتها للنظام الكونيّ، والمكان الذي يحتلّه الإنسان فيه، والعلاقات الّتي يصوغها معه، والتي تقوم أساساً على ثلاثة محاور: الله، الطبيعة، النظام الاجتماعيّ والسلطة القائمة عليه.

وهكذا، انطلاقاً من هذه المحاور الثلاثة، يرى خوسيه ميغيل بويرتا أنَّ البنية الجماليّة العربيّة ستتطوّر وستتشكّل آخذة معالمها تبعاً لكلّ مرحلة تاريخيّة، فما قبل الإسلام يختلف عمَّا بعده.

كلّ هذا سيتمّ التعبير عنه بمفردات جماليّة عربيّة خالصة تأسّست رمزيّتها في الشعر الجاهليّ، ومن ثمّ في النصوص المقدَّسة، وفي مقدّمتها القرآن، وانتقلت إلى شتّى أشكال الفنون الأخرى واستقرّت فيها. ولا غرو أن تكون هذه المفردات الجماليّة مبهمة وصعبة، كما يرى مؤلّف الكتاب، إذ إنَّها ستنظّم علاقة الإنسان مع الغيب والمقدَّس، مع العالم ونظامه، ومع الطبيعة وعناصرها.


منذ الجاهلية
يستطيع قارئ للكتاب أن يميّز بين ثلاث مراحل تاريخيّة اعتمدها الباحث الإسباني في تقسيم كتابه، موضّحاً بذلك المسار التاريخيّ الذي شقّته الجماليّة عبرها. والبداية كانت من الشعر الجاهليّ وجماليّة ما قبل الإسلام. فمن شعر تلك الفترة يبدأ المؤلف بتحديد براعم الجماليّة العربيّة. القصيدة الجاهليّة هي كالحياة نفسها، لا تنمو أو تُبنى، بل تتفجَّر وتتعاقب. إنَّها صورة الحياة الجاهليَّة، وهي صورة حسيّة غنيّة بالتشابيه والصور الماديّة التي تنبثق عن مخيلة تعكس الطبيعة وأشياءها، الكون وعناصره.

ضمن هذا السياق يرى خوسيه ميغيل بويرتا أنَّ قصيدة ما قبل الإسلام لا تقدِّم مفهوماً للعالم، وإنّما تقدّم لنا عالماً جماليّاً، والجماليّة، لدى الإنسان العربيّ الجاهليّ، انفعاليّة، نابعة من ذاتيّة خاصّة متماهية ومتناغمة مع المكان الذي يعيش فيه ويحتلّه. غير أنَّ مكان العربيّ هو الترحُّل الدائم، وهذا ما جعله يحنُّ إلى حبيبته وأطلالها هرباً من الوحدة والغربة وجفاء الحياة. في أحضان الحبيبة يكمن الاستقرار. وتالياً، جماليّة القصيدة لا تتصل، بالضرورة، بما تعبّر عنه بقدر ما تتصل بالحساسية الداخليّة التي توجّهها وتحييها. يقول: "إنَّها قصيدة تُحَبُّ لذاتها، لا للموضوعات التي تتناولها". إنَّها ليست قصيدة عقليَّة، بل قصيدة منبثقة من الحساسية والانفعال وجملة المشاعر الإنسانيّة البسيطة والمعقّدة، الغامضة والواضحة.

انطلاقاً من هذه الحساسية الخاصّة بالإنسان العربيّ الجاهليّ، يعرّفنا الكاتب إلى منظومة كاملة من الجماليّات التي تكوّنت من وحي بنية الحياة الجاهليّة نفسها وعلاقة إنسانها مع المكان، بوجهيه الزمانيّ والماديّ؛ مع الحبّ وتناقضاته، مع الحبيبة وأحوالها، مع الطبيعة وعناصرها، مع الموت والحياة، مع الأسطورة والواقع، مع الحرب والسلم، الكرم والبخل، الحريّة والعبوديّة. إنّها جماليّة التناقض. وطبعاً كلّ هذا يتمّ التعبير عنه، كما يرى الكاتب، بجماليّة لغويّة مماثلة "تخاطب الأعصاب والجلد والعضلات والحواس، أمّا الروح فتسحرها".


جماليّة الإسلام
الطور الثاني من تمظهرات الجمالية في الثقافة العربية بدأ مع الإسلام الذي أحدث تغييراً جوهريّاً في بنية الحياة العربيّة فانتقلت معه من الترحّل الدائم في صحراء قائظة إلى الاستقرار، ومن ثمَّ التوسّع. وهكذا جاء الإسلام ليُحدث تناقضاً في المثل العليا التي سادت في الجاهليّة. لم يعد الإنسان، كما كان سابقاً، مركزاً للكون، بل أصبح الله مركزه. ومع ظهور الإسلام ونزول الوحي والقرآن على النبيّ محمَّد، ستحدث نقلة نوعيّة وثورة فكريّة جديدة تنظم نوعاً من العلاقات والمفاهيم الجماليّة المرتبطة بالألوهيّة، بالوحي، والنصّ المقدَّس. فالله جميل ويحبُّ الجمال، والنصّ القرآنيّ هو جواب عن أسئلة الوجود والأخلاق والمصير، غير أنَّه قبل أيّ شيء، هو جواب جماليٌّ وفنيّ.

في "الكتاب" ينصهر كلّ شيء، الكون والأشياء، الحياة والأخلاق، الواقع والغيب. إنَّه فضاء مفتوح حُبكت فيه العلاقات المتعدّدة والمتنوّعة، وهو بهذا فنّ آخر للقول وللكتابة، إنّه نوع من كتابة المطلق، إنّه "الكتاب المطلق"، ومن هنا تأتي جماليّة المطلق وجماليّة العلاقة بين الشكل والصورة، الكلمة والمعنى. ضمن هذا السياق، يرى المؤلف أنَّ تنظيم القرآن لعلاقة المسلم مع الله، الكون والطبيعة، أعطته، أي للإنسان، دور الوسيط، فالله جلَّ جلاله هو الخالق، وهو الذي يعطي الأشياء صورتها، والإنسانُ، عامّةً، هو المتلقّي الذي سيُنفّذ الأوامر الإلهيّة. ستعكس المفردات الموجودة في النصّ المقدّس هذه الجماليّات كلّها، وهكذا سيبدأ الحديث، كما يرى خوسيه ميغيل بويرتا، عن مفهوم الكمال الإلهيّ والروحانيّ، مفهوم الجلال والجمال، الضوء والظلام. ستكون هذه المفاهيم الدعامة الأساسيَّة لكلّ جماليّة إسلاميّة قادمة، كما يرى الكاتب، وسيعمل كلّ مفكّر على تطويرها وتجديدها انطلاقاً من قراءته وتأويله للنصّ المقدّس. هكذا ستنشأ جماليّة أخرى هي جماليّة التأويل والتلقّي، فهناك الضوء الذي نتلقّاه عبر البصر، لكن ثمَّة أيضاً أشياء نتلقّاها عبر البصيرة والعقل.

التعمّق في النصّ القرآنيّ سيفتح الآفاق، في العصرين الأمويّ والعبّاسيّ، لاستكشاف جماليّات علم البيان والخطّ العربيّ. إنّنا في لحظة مهمّة، فالدولة الإسلاميّة تتوسّع وتمتدّ شرقاً وغرباً وصولاً إلى الأندلس، وهي الآن إمبراطوريَّة عظيمة. ومن أجل حسن إدارة هذه الدولة موطَّدة الأركان، لا بدَّ من عمرانها وتمكين مظاهر الرفاهية والترف فيها. هكذا تبدأ حركة عمرانيّة مهمّة، بدءاً من قنوات المياه والقصور والحصون والأسوار وصولاً إلى المدن التي، في كثيرٍ من الأحيان، كما يوضّح لنا الكاتب، بُنيت من وحي الجنَّة وجماليتها. إلى هذه الحضارة سيضيف المسلمون ثقافات وحضارات البلدان التي نشروا الإسلام فيها، وتواصلوا معها، كما هو الحال مع الفرس والإغريق.

في القرن العاشر، ولا سيّما في "بيت الحكمة" ببغداد، سيأمر المأمون بترجمة الفلسفة الإغريقيّة (أفلاطون ومثاليته، أرسطو ومنطقه، فيثاغورس وعالمه الرياضيّ)، وسيطلب إلى العلماء المسلمين تكييف هذه المفاهيم مع الهويّة الإسلاميّة. بين العقلانيّة والروحانيّة ستتموّج الهويّة الإسلاميّة، وستتبلور معالم تجربة جماليّة صوفيّة ستأخذ بُعداً جديداً في تفسير الكون وما فيه وصولاً إلى الذات الإلهيَّة الّتي تمثّل الكمال والجمال والوحدة. سيكون قوام هذه الجماليّة الصوفيّة، كما يشير خوسيه ميغيل بويرتا، أمرين: الأول، هو أنَّ محاولة الكشف عن الغيب أو الذات الإلهيّة لا توصِل إلّا إلى مزيد من الحاجة إليها، وكأنَّ الإنسان هنا ليس إلّا عتبة لما هو غير معروف، وبالتالي الرّغبة الدائمة في الاستقصاء والمعرفة. والأمر الثاني، هو أنَّ تجربة الكشف والاستقصاء هذه تقتضي من أجل التعبير عنها لغة تتحرّر من أغلال العقلانيّة والمنطق، المشترك والشائع، إضافة إلى إفلاتها من اللاهوتيّة وأحكام الشريعة.


جمالية الأندلس
أما المرحلة التاريخية الثالثة من تطوّر الجماليات العربية، فهي "جمالية الأندلس"، وهنا يميّز الباحث الإسباني في كتابه بين ثلاث مفردات سيكون من الضروريّ التوقّف عندها. فبينما تأخذ جملة "فكر عربيّ"، بالنسبة إليه، معنىً لغويّاً بحتاً يشير به إلى النتاج المكتوب باللغة العربيّة، فستكون لفظة "إسلاميّ" ذات بُعد حضاريّ، مشيراً بها إلى الحضارة الإسلاميّة وكلّ ما يتعلّق بها. أمَّا لفظة "أندلسيّ"، وتبعاً لذلك الفكر والجماليّة "الأندلسيّة"، فهي تعني "مجموعة الأفكار والمفاهيم والنظريّات والنصوص المكتوبة باللغة العربيَّة، التي تمَّ إنتاجها في الإطار الجغرافيّ المعروف، تاريخيّاً، باسم الأندلس.

لا يتردّد بويرتا بيلتشث في إدراج الأندلس ضمن هذه الحقبة الكلاسيكيّة الإسلاميّة، مشدّداً في الوقت نفسه على خصوصيتها من حيث علاقتها مع الغرب، ولا سيّما في غرناطة بني نصر، إضافة إلى كونها شكَّلت ذروة المرحلة الإسلاميّة في الأصعدة كافّة. هنا سيتوقَّف المؤلف عند نصوص فلاسفة ومفكّرين بعينهم كانت إسهاماتهم تتويجاً للفكر الإسلاميّ الجماليّ. سيطوّر هؤلاء المفكّرون، كما يرى مؤلّف العمل، مظاهر بعينها، وستكون العقلانيّة التي لطالما أنكر الغرب وجودها في الفكر الإسلاميّ، هي الدعامة الّتي يستند إليها الفكر الجماليّ الإسلاميّ الذي تطوّر في الأندلس، حيث فرزت العلوم، وتمَّ التفريق بينها وتصنيفها بشكل واضح. غير أنّ هذا لن يعني الاستغناء عن الدينيّ، بل تحديده وضبطه بشكل حاسم.

في حقل الجمال، سيجري تأسيس علم الجمال كعلمٍ مستقلّ، وهذا ما سيجعل ابن حزم يسرد لنا أصناف الجمال. علم النفس الفنيّ الاجتماعيّ سيكون هو كذلك حاضراً، وسيُسهم ابن خلدون فيه عبر نظريّته الاجتماعيّة الّتي ستكون إطار عمل لتطوير النظريّة الاجتماعيّة للفنون. صحيح أنَّ العقل والمنطق سيكونان حاضرين بقوة، لكنَّ هذا لن يمنع من تطوير فكر صوفيّ خاصّ سيتوقّف عنده الباحث مطوَّلاً، ولا سيّما عند ابن عربي، الذي سيعيد تفسير التراثين الفكريّ والثقافيّ بأكمله من وجهة نظر صوفيّة تحكمها أفكار وحدة الوجود والجمال التي سيحاول الصوفيّ من خلالهما دمج ذاته بالذات الإلهيّة.

يؤكّد خوسيه ميغيل بويرتا في كتابه "تاريخ الفكر الجمالي العربي" أنَّ دراسة الفكر الجماليّ في الإسلام الكلاسيكيّ، تقدِّم، من حيث المبدأ، مكوّنات مثمرة ومختلفة، ولا سيّما أنَّنا بصدد ثقافة فنيّة وفكريّة كبيرة لها مفرداتها وذهنيتها الخاصّة. من هنا، إنَّ دراسة الجماليّات العربيّة-الإسلاميّة في سياقها التاريخيّ، مع مراعاة تنوّعها وطبيعتها الفلسفيّة الخاصّة بها، ستكشف لنا فرادتها من حيث إبداعها لمفاهيم وحلول جماليّة عربيّة وإسلاميّة خاصّة، وهذا تحديداً ما يعطيها أهميّتها وقيمتها في تاريخ الجماليّات.


* كاتب ومترجم مقيم في إسبانيا

دلالات
المساهمون