خواطر في التبرعات

05 مايو 2019
+ الخط -
في مثل هذا الوقت من كل عام تستعر حملات الدعاية التلفزيونية للتبرع للجهات الخيرية، ومنها الكثير من المستشفيات، وتقابلها حملات مضادة من نسبة معتبرة من الناس تشكك في كل تلك الحملات وتدعو لعدم التبرع لتلك الجهات بالكلية، وللنظر حولنا فيمن نعرف من فقراء أو مرضى وإعطائهم أولى. والحقيقة أني أتحفظ على هذه الدعوات، وهذه بعض خواطري في هذا الموضوع:

- مفهوم طبعا أن الزكاة -غير الصدقة- محددة المصارف، أي أنه يلزمنا التدقيق في المستقبلين لزكاتنا وتحريهم ضمن الحالات الثماني المستحقة شرعا. لكن المشكلة في تطبيق وجهة نظر دعاة الدفع للأقرب أن قليلين جدا هم من يعرفهم الواحد منا معرفة حقيقية بحيث يجوز له تصنيفهم وإعطاؤهم من زكاة المال.

بعضنا يعاشر من العمال والبسطاء لسنين طويلة ويحجبه الكذب والمراوغة والتهويل عن حقيقة ما يدعونه بخصوص ظروفهم، فلا نحن نعرف أماكن سكنهم ولا أسرهم ولا أحوالهم خارج نطاق الساعات التي تجمعنا بهم. وكثيرا ما تفاجئنا الصدف بمعرفة أن من ظللنا لسنوات نعينهم على الفقر أو الظروف العائلية الطاحنة، أصبحوا ملاك بيوت في أطراف المدن ويزوجون أبناءهم في قاعات فنادق!


- هناك الموسرون ممن لهم مدخرات وعقارات تبلغ زكاتها عشرات الآلاف، بل ويرغبون في التصدق بمثلها في ظروف البلد الصعبة. كيف لهؤلاء إنفاق هذه المبالغ الكبيرة على من حولهم من محتاجين فقط؟ نعم، بعضهم رجال أعمال أو متوسطو أعمار ممن لهم صلات وأعمال ومشاريع ومعاونون يمكنونهم من الوصول للكثير من الفقراء في بيوتهم وإعطائهم شهريات وتحسين حياتهم بأي شكل، لكن نسبة كبيرة ممن عليهم مبالغ زكاة ضخمة هي لسيدات ثريات، أو كبار سن متقاعدين أو مرضى، وهي فئات لا تملك من المعارف ولا العلاقات ولا القدرة الصحية ما يمكنها من إيجاد المصارف المستحقة لزكاتها الكبيرة فيمن حولها من فقراء.

- العلاج في بلادنا بائس وحاله لا يخفى على أحد. والزكاة في هذا الجانب ضرورة حياة. و"اللي ايده في المية غير اللي ايده في النار" كما يقولون، وقراءة ما يقال عموما عن فساد الجهات العلاجية الخيرية يوجع القلب إذ تضحد غالبه زيارة لمستشفى علاج سرطان خيري واحد، ورؤية عدد وحالة مئات المرضى ممن يفدون لهذه الجهات لقلّتها من شتى القرى والمناطق النائية. ناس أصلا حالهم في الحضيض من الفقر والجهل والتهميش، ثم يبتلون بالمرض سواء في مراحل مبكرة أو متأخرة، ويحتاجون في الحالين لعلاج بآلاف الجنيهات شهريا. ومن يقول بأن العلاج على نفقة الدولة متاح لهؤلاء، فليذهب ليرى بعينه كم يتيح العلاج على نفقة الدولة لمريض سرطان مريء علاجه الحق يتكلف قرابة العشرين ألف جنيه شهريا. سيجد حالات تعتمد لها نفقة الدولة ألف جنيه لمدة ستة أشهر مثلا، بما معناه "روح موت وربنا معاك"! اسألوا أطباء علاج السرطان عن تكلفة العلاج وعن نسبة ما تتكفله الدولة منه.. الموضوع صعب صعب حتى على القادرين فما بالنا بغالبية ممن لا يجدون القوت أصلا.

- تصور معي أنك تعرف رب أسرة فقيرة أصيب بورم صعب يتطلب علاجه جلسات وأدوية بعشرة آلاف الجنيهات شهريا مثلا وتريد مساعدته..هل الذهاب له في بيته وإعطاؤه المال في يده يضمن علاجه؟ غالبا لا، أقول ولا حتى شراء الدواء له يضمن علاجه، لأن هذه الفئة قد تقدم صرف المال، أو حتى بيع ما تأخذه من أدوية على "شوار البنت" بشراء ثلاجتين وغسالتين وبوتاجازين على العلاج! أو تقوم بشراء توكتوك للولد، أو دفع المال أقساطا لتسفيره لليبيا أو إيطاليا! أقول هذا عن تجربة والله وأسمعه من الكثيرين.

- علاج الأورام والأمراض الصعبة، عافانا الله وإياكم، ليس بالأدوية فقط. جزء كبير من العلاج يحتاج تجهيزات طبية ضخمة تتكلف الملايين. أجهزة العلاج الإشعاعي مثلا يتكلف الواحد منها عشرات الملايين. في الإسكندرية ثاني كبريات مدن القطر المصري يوجد بالكاد ما يزيد قليلا عن عشرة أجهزة علاج إشعاعي لخدمة عشرات الآلاف من مرضى السرطان من فقراء وأغنياء على السواء. والنتيجة انتظار بلا نهاية وأعطال بلا نهاية وحياة ثمينة تهدر، فيما كان يمكن إنقاذها، لمجرد عدم وجود الجهاز أو تعطله أو مط فترة العلاج لطول قائمة الانتظار.

أليس دفع المال لشراء التجهيزات الطبية الضرورية والتي تتطور باستمرار وتأتي بنتائج عظيمة يستحق الزكاة؟ ومن يقوم بمثل ذلك في غياب الدولة غير الجهود الأهلية للقادرين؟

- الحديث عن تجهيز بعض المستشفيات "على سنجة عشرة" وعن أجور الأطباء والعاملين وكأنه فساد ونهب فيه نظر. بالطبع المبالغة مرفوضة. لكن طبعا أطقم هذه المراكز لا يعملون بلا أجر. وبالطبع لو أن جهة جادة تريد تدريب طاقمها والحفاظ عليه وجعله يقوم بمهمته على أفضل وجه ممكن، فعليها دفع ما يستحقه أفراده من أجور. هذا ليس عيبا ولا حراما ولا سُبة. أجور عادلة لطواقم هذه المؤسسات هو بالقطع جزء من العلاج وليس نهبا، وهو ما يقول عنه المفتون أنه ضمن مصرف "والعاملين عليها".

أما بخصوص التأثيث والتجهيز فالواحد والله يتعجب ممن يتندرون من تركيب مكيفات أو شاشات أو أسرّة لائقة أو مساحات راحة في أماكن تعالج مثل هذه الحالات البائسة، وكأن الطبيعي أن يكتووا بنار المرض والحر والقذارة معا! وكأننا ألِفنا الدنية من كل شئ وأصبحنا نستكثر على أنفسنا اللياقة والاحترام! وكأن ما نعيبه على جل العلاج الحكومي من مساوئ هو ما نريد نشره ولو بأموال الناس الخاصة!

- العدل في رأيي أن من يملك إثباتاً حقيقياً على فساد جهة خيرية ما، فعليه أن يتقدم به للنيابة، وليسعى بكل طاقته في وقف هذا الفساد وعقاب فاعليه. فهذه المؤسسات مثلها مثل أي جهة أخرى لا تحتكر الملائكة إدارتها، وستكون التجاوزات جزءاً من الواقع. أما وأن نتلقف الكلام المرسل عن أي جهة ونعتبر تدويره بين العامة وتعميمه على الجميع هو ما نفعله من خير لحرب المفسدين فهو والله ظلم بيّن نوزعه في كل اتجاه. نوزعه على من ننهش سمعتهم بالتعميم، وعلى المرضى ممن نحرمهم من أمل كبير في العلاج، وعلى من عليه الزكاة ويحبسه مثل هذا الإفتراء عن دفعها للمستحقين.

- مأخذ المبالغة في الإعلان وصرف الملايين عليه هو كلام معتبر، لكن الكثيرين ردوا عليه بمسوغات ضرورة النشر والتسويق وغيره، وأن ما ينفق يبرر بحجم العائد الذي تحققه الدعاية إلخ، وهو كلام اقتصادي ذو تفاصيل. والشاهد فيه هو عدم إطلاق الأحكام والرأي الشخصي بلا معلومات متخصصة. ومن يملك الأدلة والمعلومات على تجاوزات أو رشى أو فساد، فمرة أخرى عليه بالتوجه للنيابات المختصة لا نشر رأيه في أعراض الناس وهدم جهود أهلية نحتاجها بشدة.

- الإنفاق في الزكاة والصدقات هو مسؤولية صاحبه في المبتدأ والمنتهى، وله الاختيار في الكيفية التي يرتاح لها ضميره، ولا أحد يرغمه على شيء، ومن القسط في المقابل ألا يتطوع أحد بإغلاق أبواب للخير ولمساعدة الناس بنشر التخوفات بشأن نزاهتها، وإثناء الناس عن المشاركة فيها، لمجرد أنه لا يرتاح لأصحابها أو لا يوافق طريقتهم، أو يختلف معهم سياسيا مثلا.

- أتصور والله أن نظرة لطف واحدة لما ننفقه الآن على علاج ألم أسنان، أو نزلة برد، أو مغص معوي، وما نتعجب به من جنون أسعار القطرات والبخاخات والمراهم والمضادات الحيوية.. نظرة لطف واحدة كفيلة بعدل موازين الأحكام قليلا، ورفع أيادي البطش المرسل عن متنفس لعلاج الناس في بلد لا يولي العلاج ولا الناس غير ما نرى من بؤس.

كل عام ونحن جميعا بخير.. لطفاء مقسطون ما استطعنا.
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى