خلف النافذة المغلقة بإحكام

10 فبراير 2020

(عصام معروف)

+ الخط -
ضبابٌ كثيفٌ يلفّ العاصمة عمّان هذا الصباح، حتى لا أكاد أميّز الأشياء خلف نافذتي المواجهة للشارع، سيارات مركونة على جانبي الشارع الضيّق الخالي تماما من البشر، البرد الشديد يحول دون خروجهم. حذّرتنا دائرة الأرصاد الجوية من هذه الموجة القطبية، على وجه الخصوص، وأهابت بنا الجهات الأمنية أن لا نبارح بيوتنا إلا للضرورة القصوى. لذلك قرّرت أن لا أذهب إلى المقهى القريب مثلما جرت العادة. وسأكتفي بالتأمل من خلف النافذة المغلقة بإحكام. مؤكّد أن رواد المكان سوف يفتقدونني، معظمهم من فتيات وشبان يعملون في الشركات الكبرى التي يزدحم بها شارع مكة، يهرعون إلى المقهى الصغير، في كل فرصة، يشربون قهوتهم وينفثون سجائرهم المحظورة في مكاتبهم صديقة البيئة. ثمّة متقاعدون تجاوزوا أخيرا أزمة منتصف العمر. رجال ونساء يهربون من الفراغ الذي يحيط بأيامهم الأخيرة، سعداء بتلك العلاقات الإنسانية الجديدة التي أتاحها المكان، ما مكّنهم من تبادل الخبرات في أفضل الطرق، للتكيف مع نمط حياتهم الرتيب المملّ. 
تشكّلت، مع الأيام، ألفة من نوع ما بيننا، حتى أصبح لكل منا مكان محدد، إذا غاب أحدنا نحفظ بشكل لا واع مكانه فيما لو أطل وجه غريب. اعتادوا على قدومي المبكر صباح السبت، موعد كتابة المقال. يسكب مدير المقهى، أحمد، فنجان قهوة طازجة حال مشاهدة سيارتي. أبدو أحيانا لهم مرتاحة الملامح. عندها يدركون أن فكرة المقال جاهزة في رأسي. لن يمضي وقت طويل، قبل طباعتها وإرسالها في الموعد المحدد. وأحيانا أصل متجهّمة الملامح، مشوشة الفكر، فيدركون أن الجعبة فارغة، فيبادرون متحمّسين إلى اقتراحات عناوين مغرقة في محليتها. اقترح أحدهم الكتابة عن "حملة مش دافع" التي بادر إليها مواطنون أردنيون عانوا من الارتفاع غير المنطقي على فواتير شركة الكهرباء التي استعانت بالدرك، في بعض مناطق المملكة، لغايات قطع الخدمة عن المتخلّفين عن الدفع. وها هم الناشطون يشحذون الهمم لإنجاح الحملة المحكومة بالفشل، لأن الشركة، بكل بساطة، ستقطع عنهم الخدمة الحيوية، حال تراكم أكثر من فاتورتين، لأنها الطرف الأقوى في العلاقة التعاقدية مع المواطن التي يمكن تصنيفها من عقود الإذعان، كونك تدفع مقابل خدمة من دون أن يكون لك الحق في الاعتراض، وفي أحسن الأحوال يسمعونك العبارة الرسمية الأكثر عبثية: ادفع ثم اعترض كما تشاء.. ولكن من يستطيع في هذا الزمن الأغبر الاستغناء عن الكهرباء أكثر من ساعة من دون أن يصاب بانهيار عصبي؟
اقترحت سيدة من الموجودين يومياً في المكان: طيب، لماذا لا تكتبين عن صفقة الغاز المشبوهة التي ورّطونا بها مع العدو الصهيوني. مهمتك وزملائك من الكاتبات والكتاب توعية بعض المواطنين، غير المكترثين إلا بمجريات يومهم، أن المواطن الأردني غير موافق على هذه الاتفاقية، وهي مفروضة عليه بنصوص قانونية جائرة. قلت لهم مقترحاتٍ في غاية الأهمية، وأتفق معكم على ضرورة إثارتها في كل المنابر، صحافة محلية، قنوات فضائية، مواقع إلكترونية. ولكني أكتب لقارئ عربي أيضا، وهو على الأغلب غير معني بفاتورة الكهرباء في الأردن. ولعله يتوقع عناوين أكثر إثارة، مثل صفقة القرن المشؤومة. حسناً، والمطر الآن بدأ في الهطول بشدة، يمكن القول، في هذا الشأن، إن صفقة القرن "بنت ستين كلب، وهي عدوان جديد، على الشعوب العربية التصدي لها، وأن لا تتخلى عن مسؤولياتها تجاه فلسطين". جميل، طيب وبعدين؟ كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا.. هل تغير شيء على أرض الواقع الملتبس الملتاث؟ لا شيء سوى أن الخيبة وانهيار الحلم في اللحظة الراهنة هما واقع الحال لدينا. لذلك سأستمع الآن بكثير من التركيز إلى "حبيت ما حبيت ما شاورت حالي.."، إلى أن تقول "يا ضيعانو!".
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.