تترقب اليابان، اليوم الإثنين، اختيار الحزب الحاكم، "الليبرالي الديمقراطي"، خليفةً لرئيس الوزراء المستقيل شينزو آبي. وإذا كانت التوقعات تميل لدرجةٍ كبيرة، لصالح مستشاره المقرب جداً منه، سكرتير الحكومة الأول، يوشيهيدي سوغا، فإن عملية الانتقال الديمقراطي في هذا البلد، والتي ستجري بسلاسةٍ ومن دون مفاجآت على الأرجح، لا تحتمل الكثير من التأويل، حول الوجهة التي سيسلكها هذا البلد، مع رئيس وزرائه الجديد. فالمرحلة المقبلة التي تنتظرها البلاد، ستكون حافلةً باستحقاقات داخلية، أخفق آبي في إنجازها، أو استكمال إنجازها، أو تصحيح مسارها، ليحلّ فيروس كورونا، ويوجه ضربة قاسية إليه، بعدما وصل إلى منصبه في العام 2012 بتأييد شعبي كبير. وعلى الرغم من ذهاب الكثير من المحللين إلى الاعتقاد بأن آبي قد يكون استقال لحفظ ماء وجهه، وليس بسبب اشتداد المرض عليه، في استعادةٍ لمخرج كان لجأ إليه في العام 2007، بعد توليه لفترة عامٍ فقط منصب رئاسة الوزراء، فإن سوغا، أو أياً من المرشحين الإثنين الآخرين اللذين يتنافسان معه على هذا المنصب، سيعمد على الأرجح إلى المضي بقرارات لم يتمكن آبي من اتخاذها، على الصعيد الاقتصادي خصوصاً، بعدما هبطت شعبية الأخير بشكل مطرد، جرّاء الفشل في معالجة تداعيات الوباء، وهو ما أعاد التذكير بمشاكل بنيوية تخص المجتمع والاقتصاد الياباني، مقابل نجاح دول أخرى في المنطقة، أقل وزناً من هذا البلد، في التصدي له.
الرصد الأهم لخليفة شينزو آبي، بما يهم شؤون المنطقة، هو لمسار العلاقة التي تزداد توتراً مع الصين
لكن الرصد الأهم لخليفة شينزو آبي، بما يهم شؤون المنطقة، هو لمسار العلاقة التي تزداد توتراً مع الصين، كما للملف الكوري الشمالي، والعلاقات في منطقة "الهادئ" التي تشي بتعزيز تحالفات وتحالفات مضادة، ومحاولة استفادة رئيس الوزراء المقبل، مما لم يتمكن آبي من حصده من الحليف الأميركي في البيت الأبيض، على الرغم من العلاقة "الرائعة والمميزة" التي نسجها مع الرئيس الجدلي، دونالد ترامب. وكانت دبلوماسية ترامب الفوضوية، قد أفشلت تمرير أجندة آبي الصارمة حيال بيونغ يانغ، وبالإضافة إلى ذلك، لم يحل "لعب الغولف" مع الرئيس الأميركي، دون فرض الأخير ضرائب على صادرات اليابان من الحديد والألمنيوم، بالإضافة إلى الضربة التي وجهها ترامب بانسحابه من اتفاقية الشراكة عبر الهادئ، الهادفة لاحتواء الصين. وهنا، يأتي خليفة آبي، في وقت تنتظر الولايات المتحدة بدورها، انتخابات صاخبة، ستحدد من بعدها، شكل المواجهة مع الصين، فيما تنحو واشنطن أكثر نحو توكيل حلفائها في المنطقة، مهمات موضعية وتكاليف إضافية لاحتواء التنين الآسيوي، عسكرياً واقتصادياً. ويميل المتابعون للشأن الياباني، للاعتقاد بأن خليفة آبي، سيكون أكثر ارتياحاً مع فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بالرئاسة، بما يعني تفعيل استراتيجية أكثر استقراراً ووضوحاً لما يسمى التوجه الأميركي شرقاً.
استحقاقات داخلية
وكان شينزو آبي، قد قدّم استقالته في 28 أغسطس/آب الماضي، بداعي المرض. قبلها بأسبوع، نُقل عنه، إثر خروجه من المستشفى حيث أجرى فحوصات طبية، أنه "سيجرب الغامبارو"، وهو مصطلح ياباني يعني العمل قدر المستطاع، وعدم الاستسلام. لكن الاستقالة جاءت لتدحض توقعات إيجابية، بأن رئيس الوزراء القوي، والذي يعد من صقور اليمين، ويحمل أيديولوجية قومية راسخة، ممزوجة رغم ذلك بالبراغماتية الواقعية، لن يستسلم. ولذلك، ربط الكثيرون من المتابعين، هذا الاستسلام، باستحقاقات قد يكون من الصعب خروجها على يد حكومة آبي، بعدما تراجعت شعبيته داخلياً بشكل كبير، في ظلّ كورونا.
وليس تراجع الشعبية لآبي، سوى عملية تراكمية، لسلسلة من الإخفاقات، لرجل أمسك بالسلطة التنفيذية في هذا البلد لحوالي ثماني سنوات، معطوفة على مجموعة من الفضائح، ينظر إليها داخلياً بأنها فضائح فساد. لكن الفيروس الذي حلّ في اليابان، وحصد أكثر من 63 ألف إصابة، ولو مع كبح الوفيات، كشف عورة سياسات لم تنفذ من قِبل رئيس وزراء ياباني حكم في منصبه لأطول فترة في تاريخ البلاد. ويشار إلى سياسات آبي "الكورونية"، بعبارات متهكمة، كمثل "آبينوماسك"، في إشارة إلى قراره توزيع قناعين واقيين للاستعمال المتكرر لكل عائلة، أو سياسة "السياحة الداخلية"، التي لم تدر أي مدخول يذكر، لمواجهة تداعيات الاقتصاد المترنح (الثالث عالمياً)، والذي كان عرف عن آبي إنجاز تحسينه في بداية عهده، وفق ما يسمى "أبينوميك"، أو "اقتصاد آبي".
وجاء ذلك، في وقت كان من أهم الاستحقاقات اليابانية التي لم تنفذ، والتي كانت ضمن أجندة وعود الحزب الحاكم، معالجة أزمة أمةٍ هرمة، تحاصرها ظاهرة "الموت من الإفراط في العمل"، أو بما يترجمه المصطلح الياباني، "كاروتشي". ووجدت دراسة حكومية في العام 2016، أن واحداً من أصل كل خمسة يابانيين، معرضون للموت من الإنهاك بالعمل، في وقت لا يزال دمج المرأة بسوق العمل ضعيفاً للغاية، فيما تحاصر عوائق عدة مسألة استجلاب العمالة الخارجية. هذه العقدة، ليست تفصيلاً بسيطاً في أزمة اليابان الاقتصادية، وهو ما كشفه كورونا، عندما تبين أن معظم العاملين، لم يتمكنوا من العمل من المنزل، في ظلّ الظروف الوبائية. وسجلت نصف حالات الإصابة، منذ يوليو/تموز الماضي، عندما كانت معظم دول الجوار قد توصلت إلى محاصرة الوباء. في ظلّ ذلك، لم يخرج آبي سوى مرات معدودة للتكلم للمواطنين، فيما كان الاعتقاد السائد، على غرار النموذج الأميركي، بإن إنكار خطر الوباء منذ البداية، كان لإنقاذ الألعاب الأولمبية التي تأجلت بالفعل.
ليس تراجع الشعبية لآبي، سوى عملية تراكمية، لسلسلة من الإخفاقات
خلافة آبي
ويختار الحزب الحاكم في اليابان، اليوم، خليفة آبي، من بين ثلاثة مرشحين، هم بالإضافة إلى سوغا، وزير الدفاع السابق شيغيرو إيشيبا، ووزير الخارجية السابق فوميا كيشيدا. وإثر انتقاء الحزب لمرشحه، يصوت البرلمان، بعد غدٍ الأربعاء، على الاختيار، الذي سيحصل على التأييد حتماً، لهيمنة الحزب بأكثرية مريحة عليه. وبدأ سوغا، كما الإعلام المحلي والعالمي، يتعامل مع هذا الاستحقاق، كما لو أن الأخير هو الفائز حتماً. ويرفض مستشار آبي، الحديث عن "حكومة انتقالية"، بل يشدد في كل تصريحاته، على فكرة أن الحكومة المقبلة، ستكون امتداداً لعهد آبي. وبرأيه، فإن رئيس الحكومة المستقيل، قد تمكن من إعلاء شأن بلاده على الساحة الدولية، وبناء علاقة ممتازة مع البيت الأبيض، وهو يتخطاه بأشواط في ما يخص الوزن والعلاقات الدبلوماسية.
وأول من أمس، أكد سوغا، خلال مناظرة مع منافسيه، على أهمية العلاقات الصينية - اليابانية، وأنه سيعمل على تحسين العلاقة مع الدولة الجارة التي تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي. وكان آبي قد فشل في حلّ الخلاف حول الجزر المتنازع عليها مع الصين، والتي أجرت بكين فيها تحركات عسكرية خلال العام الحالي، بلغت مستوى غير مسبوق. كما لم يتمكن من توقيع معاهدة سلام مع روسيا، وأدّت أيديولوجيته القومية، إلى تراجع في العلاقة مع كوريا الجنوبية، حيث تدنت النظرة الشعبية إليه إلى مستوى لم يبلغه حتى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وفق إحصاء أخير لمعهد "غالوب". وعلى سوغا، أو أي من المرشحين الفائزين، إرساء استراتيجية بنّاءة لمواجهة تداعيات كورونا الاقتصادية، وحسم مصير أولمبياد طوكيو.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فيعتبر سوغا تحديداً، شخصية مغمورة مقارنة برئيس الوزراء المستقيل، الذي كان متمرساً ووريث عائلة سياسية بامتياز. وفيما يرى كثيرون أنه سيكون قادراً على تحقيق إنجازات "عملياتية" لمواجهة الأزمة الاقتصادية، إلا أن رؤيته على صعيد السياسات الأمنية والعلاقات الدولية لا تزال غير واضحة. لكنه أكد الثلاثاء الماضي، أنه سيظلّ متمسكاً، إذا ما فاز، بسياسة سلفه المرتبطة بليبرالية الاقتصاد، وتمتين حرية التجارة والانفتاح التجاري في منطقة "الهندي - الهادئ". وإذا كان الاقتصاد على رأس أولوليات خليفة آبي، فإنه من المستبعد أن يعمد أي فائز لانتهاج الحماسة ذاتها، في ما يتعلق بطموحات رئيس الوزراء المستقيل "القومية"، لا سيما بما يرتبط بتعديل الدستور "المسالم" أو "اللاحربي"، منذ 70 عاماً، لمنح الجيش، أو ما يعرف بقوات الدفاع الذاتية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مساحة أكبر للتدخل العسكري الخارجي. هذا الأمر، والذي كان آبي قاب قوسين من الوصول إليه، من المؤكد أنه سيثير حفيظة الصين، لكن بحسب شيلا سميث، وهي خبيرة في منطقة شرق آسيا، في مجلس العلاقات الخارجية البحثي، في واشنطن، فإن خطة آبي للجيش "لن تكون على رأس سلم أولويات" رئيس الوزراء المقبل، وفق حديثها لمجلة "تايم".
بهذا المعنى، تنتظر اليابان حكومة "انتقالية"، سيكون عليها إكمال عهد آبي الذي كان مقرراً حتى سبتمبر/أيلول 2021. وفيما تتحضر المعارضة التي شكلت حزباً جديداً، للإعلان عنه في ذات اليوم الذي سيصوت عليه البرلمان لاختيار خلف آبي، قد تكون البلاد أمام عامٍ جدي، لإثبات استمرارية تركة آبي، وتفادي خضّات داخلية وخارجية غير محسوبة.