رفعُ البنك المركزي التركي سعر الفائدة، يوم الخميس الماضي، كان متوقعًا، لكن كان مستبعدًا أن يكون معدل الرفع بهذه النسبة، والبالغة 6% دفعة واحدة، ليصل السعر لمدة أسبوع 24%، مقابل 17.8%.
ثمة تفسيرات عدة لقرار المركزي التركي، على رأسها مواجهة ارتفاع موجات التضخم، ومقاومة ظاهرة الدولرة، أو جذب مدخرات المواطنين الأتراك. وسبق القرارَ قرارٌ آخر للحكومة يحد من التعاملات بالدولار في سوق العقارات، كنوع من الترشيد للطلب على العملة الأميركية، مما يؤدي إلى تحقيق توازن حقيقي في السوق.
وخلال الفترة من مايو/ أيار 2010 وحتى يونيو/ حزيران 2018، لم يتجاوز سعر الفائدة في السوق التركي نسبة 10%، حيث تحقق ذلك في يناير/ كانون الثاني 2014، ثم عاود الانخفاض. وفي مطلع يونيو 2018، قفز السعر إلى 16.5%، ثم ارتفع إلى 17.75%، في الأسبوع الأول من أغسطس/ آب 2018.
وبغض النظر عن السجال الدائر بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان والبنك المركزي حول سعر الفائدة، حيث لا يزال أردوغان عند رأيه بضرورة خفض سعر الفائدة، إلا أن الواقع يشهد تفعيل قرارات البنك المركزي على أرض الواقع.
سلبيات التفرد بالقرار
السياسة الاقتصادية كل لا يتجزأ، ومن مضار أن تقود أحد مكونات السياسة الاقتصادية بقية السياسات، سواء المالية أو النقدية، من دون تنسيق، أن تقع أمور لم تكن في الحسبان، وتتم المعالجة بشكل جزئي، حيث ينتقل الأثر السلبي من جانب إلى آخر.
وإذا نظرنا إلى بيانات البنك المركزي التركي، والتي توضح أن معدل التضخم ارتفع إلى 17.9% في أغسطس 2018، وأن ذلك كان من أهم أسباب رفع سعر الفائدة، فإن المعالجة لا تكون بهذه الخطوة.
وقد يذهب البعض إلى أن لرفع الفائدة أثرا إيجابيا على سعر صرف الليرة، والحقيقة أن ذلك سيكون في الأجل القصير جدًا، وربما عاودت الليرة الانخفاض أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، مع بداية الأسبوع القادم.
وتكمن خطورة قرار المركزي التركي، في نقله أسباب التضخم من دائرة سعر الفائدة وسعر الصرف إلى جانب العرض، حيث ستؤدي سياسة رفع الفائدة إلى ارتفاع تكلفة التمويل، خاصة في اقتصاد مثل تركيا، تعتمد فيها المؤسسات الاقتصادية بشكل كبير على التمويل البنكي.
وحصول المستثمر أو المنتج على تمويل بسعر فائدة بنحو 24%، من شأنه أن ينعكس على تكلفة الإنتاج بالزيادة، وهو أمر يؤدي إلى تراجع تنافسية المنتجات التركية في السوق المحلية، كما سيؤثر سلباً على الصادرات خلال الفترة القادمة، لأنه من الصعوبة بمكان أن يستطيع المنتج التركي الحفاظ على انخفاض أسعار سلعه التصديرية، في ظل ارتفع تكلفة التمويل لتصل إلى 24%، وقد سبق ذلك أمر مهم يتعلق بارتفاع تكاليف الإنتاج، الأسبوع الماضي، لزيادة تكلفة الكهرباء لقطاع الصناعة بنحو 14%.
هنا السؤال: كم يلزم للمستثمر من أرباح، حتى يستطيع أن يجنب منها 24% فقط تكلفة التمويل؟ فهذه النسبة لا تلائم حتى الأنشطة التجارية وسريعة العائد، فمن الصعوبة بمكان لقطاع مثل الصناعة أن يحقق هذه النسبة.
وإذا كانت البيانات الحكومية التركية أظهرت منذ أيام أن معدل النمو الاقتصادي حقق 5.2% خلال الربع الثاني من 2018، وتحدث البعض عن أنه أمر إيجابي رغم انخفاض سعر الصرف، والتقارير السلبية لمؤسسات التصنيف الائتماني، فعلينا أن نذكر أن معدل النمو كان عند 7.1% في الربع الأول، ويتوقع أن تظهر الأسعار السلبية لانخفاض الليرة، وارتفاع سعر الفائدة، وكذلك ارتفاع سعر الكهرباء، خلال نتائج معدل النمو الاقتصادي في الربعين الثالث والرابع من 2018، وستكون النتائج أقل من معدلات الربع الثاني.
تشابك المؤشرات الاقتصادية الكلية أمر طبيعي، ولذلك قد نجد، خلال الفترة القادمة، ارتفاعا في معدل البطالة، مع الركود المتوقع، خاصة في الربع الرابع من عام 2018. وإذا كانت أرقام معهد الإحصاء التركي تبين أن معدل البطالة كان عند 9.7% في مايو 2018، فمن المتوقع أن يتجاوز نسبة الـ 10% بنهاية 2018.
البدائل الممكنة
تفرّد البنك المركزي التركي بقيادة السياسة الاقتصادية سيكون له المزيد من الآثار السلبية، وهي نتائج مجرّبة في دول عدة، ومنها مصر والأرجنتين. ولذلك من الضروري، التنسيق بين البنك ووزارة المالية، ومنظمات مجتمع الأعمال، للوصول إلى إجراءات تحقق مصالح الجميع، ويكون هناك تخطيط للتعامل مع السلبيات الناتجة عن الإجراءات التي تتخذها السياسة النقدية من خلال البنك المركزي.
كما أن طريقة العلاج بالصدمة، والتي أتى في إطارها قرار البنك المركزي الأخير، غير صالحة طوال الوقت، فهي توجد حالة من عدم الثقة في المستقبل، وتجعل المتابع والمتعامل مع مكونات الاقتصاد يتوقع الأسوأ.
فما اتخذته الحكومة في بعض المجالات لتنظيم التعامل بالعملات الأجنبية داخل السوق المحلي، كان يمكن استثماره، من خلال البنك المركزي، ورفع سعر الفائدة بنسبة تتراوح ما بين 0.5% و1%، وكلما دعت الحاجة إلى رفع الفائدة يكون تدريجيًا، وليس دفعة واحدة، خاصة أن الأمر لم يظهر له سقف بعد.
والحديث عن البدائل في ظل الاعتماد على آلية سعر الفائدة لا يعني الاقتناع بها، فهي أصل الداء. ولكن في ضوء الواقع، لابد من التعامل معها وفق أدواتها المتعارف عليها في النظام الرأسمالي، خاصة في ظل تداعيات الأجل القصير.
وعلى صانع السياسة الاقتصادية في تركيا أن يتحول، في الأجلين متوسط وطويل الأجل، من آلية التمويل بالدين، إلى التمويل بالمشاركة، سواء فيما يتعلق باحتياجات الحكومة أو القطاع الخاص، لتكون المخاطر موزعة على شركاء النشاط الاقتصادي، ولا تظهر لنا أمراض التضخم، والديون، وإهدار الموارد الاقتصادية.
إن جزءًا من أزمة البنك المركزي في تعامله مع قضية سعري الصرف والفائدة، يرجع إلى التداعيات السلبية في الأسواق الناشئة، سواء في الأرجنتين التي تقود أكبر سعر فائدة في السوق العالمي بنحو 60%، أو تذبذب سعر صرف العملات المحلية التي تشهده دول مثل الصين وروسيا والبرازيل وغيرها من الدول.
ومن إيجابيات التمويل بالمشاركة، أنه يجنب الاقتصاد الآثار السلبية للعوامل المتعلقة بالسياسات النقدية والمالية، خاصة تلك التي تأتي من الخارج، فيكون الاقتصاد الحقيقي هو الأصل، وتكون كل كمية من النقود لها مقابل من السلع والخدمات والأصول المالية، فلا تعرف الأسواق هذه الأزمات والهزات شديدة التقلب.
ستسفر الأيام القادمة عن النتائج الحقيقية لا المتوقعة، لسياسات البنك المركزي التركي، وسنكون أمام سيناريوهين، الأول التهدئة في المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاد، وإن كان ذلك في الأجل المتوسط، وبالتالي إعادة حالة التوازن العام، واستكمال تركيا تجربتها الاقتصادية والتنموية.
لكن يستلزم ذلك تفعيل حزمة من الإجراءات الحكومية المصاحبة لقرارات المركزي التركي لتحقيق حالة من الانضباط داخل السوق المحلية، وإعادة الثقة، أو لا قدر الله الاستمرار في دوامة عدم التوازن نتيجة عدم تنسيق السياسة النقدية مع باقي مكونات السياسة الاقتصادية، وبالتالي الدخول في تجارب مشابهة لروسيا أو الصين في أحسن الأحوال، ولحالة مشابهة للأرجنتين في أسوأ الأحوال.