عندما تعلم الأم أو تشك بأن طفلها تعرض للتحرش أو الاعتداء الجنسي تشعر بأن زلزالاً ضرب كيانها وصدّع أركان منزلها، وإن شراّ كبيراً تربّص بطفلها واستهدفه على غفلة منها، وزعزع أمانه واستقراره.
يجتاحها غضب وخوف وقلق وربما قلّة حيلة، لكن الحدث مهما حطّ من عزيمتها لا بدّ أن تواجهه، وتعرف أن الدفاع عن طفلها مهما أعاقته الصعاب والعقبات، هو الخلاص.
حاورنا اختصاصية علم النفس العيادي الدكتورة باسمة المنلا، التي أوضحت لنا الخطوات التي على الأم اتباعها أولاً بأول لكي تحمي حق طفلها المعتدى عليه وتخرجه من أزمته إلى برّ الأمان.
ماذا تفعل وكيف تتصرف؟
تنطلق المنلا منذ اللحظة التي تعرف فيها الأم أن طفلها يتعرض للتحرش أو الاعتداء الجنسي، وتقول: "عندما ترى الأم علامات أو آثار على جسم طفلها مثل كدمات أو خدوش أو آثار سائل منوي أو ربما دماء على ملابسه، أو عندما يخبرها بأن أحدهم تحرش به أو اعتدى عليه، أو إذا لمّح لها تلميحاً بذلك بالكلام أو السلوك، فهذا دليل قاطع على تعرضه للتحرش أو الاعتداء الجنسي".
وتضيف أنه في حال لم ترَ علامات جسدية على طفلها، ولم يفصح لها أو يلمّح عن الاعتداء والمعتدي، لكنها لاحظت تغيراً في سلوكه مثل عادات نومه وأكله ولعبه ورغبته في الانزواء مثلاُ، أو خوفه من أشخاص لم يكن يخافهم سابقاً، أو سرعة غضبه وانفعاله، أو طريقة كلامه واستخدامه مفردات لها دلالات جنسية ربما، أو تراجع أدائه المدرسي، فهذه مؤشرات كفيلة بأن تجعلها تشك بالأمر، وتبقيها متيقظة وفي حالة متابعة ومراقبة.
لكنها تنبّه إلى أن تغير عادة سلوكية ما أو أكثر عند الطفل ليست بالضرورة دليلاً حاسماً على وقوع الاعتداء، مثل التأخر الدراسي أو فقدان الشهية أو غيرها على سبيل المثال.
وعن تعامل الأم مع طفلها المعتدى عليه، تقول: "عليها قبل كل شيء أن تسأله عن سبب تلك العلامات بكل هدوء وبدون أي ترهيب، لأن الطفل عندما يخاف يتوقف عن الكلام والبوح بالمعلومات، وعليها ألا توجه له الانتقاد واللوم أو تصب غضبها عليه. لأن الأهل في مثل تلك الحالات يجلدون الضحية مرة ثانية من خلال أسئلتهم من نوع: لماذا لم تصرخ؟ لماذا لم تخبرني قبل الآن؟ لماذا لم تهرب؟ لماذا لم توقفه عند حدّه؟ لماذا تركته يفعل ما فعل؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تحمّل الطفل مسؤولية ما حصل".
وتتابع "على الأم أن تخبر طفلها بأنها تدعمه، وإنها ستساعده وألا تعطيه وعوداً كاذبة لا تستطيع الوفاء بها".
وتلفت إلى أنه "في حال بادر الطفل بإخبار أمه عن الاعتداء أو التحرش، واعترف لها بما حصل، فهذه علامة جيدة ودليل على ثقته بأمه وعلاقتهما الجيدة، وبأنه لا يخاف من العقاب أو الملامة في حال أخبرها بالأمر". كما بيّنت أن "ردة فعل الأم الهادئة والبعيدة عن تحميله المسؤولية تمتّن ثقته بها، وتجعله واثقاً بأنها مرجعه الأساس دوماً عند وقوعه في أي مشكلة، وملجأه الآمن".
معلومات كافية عن المعتدي والاعتداء
وتخبرنا اختصاصية علم النفس العيادي أن الخطوة التالية بعد تأكد الأم من تعرض طفلها للاعتداء هي معرفة هوية المعتدي إذا أمكنها ذلك، إن كان من الأسرة، أو الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء، أو غريباً. ومعرفة أين ومتى وقع التحرش أو الاعتداء الجنسي، في البيت أم خارجه، أو في مكان قريب، وهل هي المرة الأولى أم حصل قبل ذلك، ومنذ متى؟
وتقول: "الطفل يخاف أحياناً من الكشف عن اسم المعتدي أو الإشارة إليه، وربما لا يفصح إلا بعد فترة طويلة، وغالباّ ما يكون خوفه ناتجاً عن تعرضه للتهديد والتخويف، وهذا يرجح أن يكون من الناس المقربين منه".
وتؤكد على مسألة في غاية الأهمية، وهي "ضرورة أن تتأكد الأم بأن الجاني الذي تعرض لطفلها لا يتعرض لغيره من أخواته أو إخوته مثلاً أو لأطفال آخرين في المحيط القريب، وعليها أن تواصل المراقبة وتكشف أي علامات على أجسام أو ملابس الأطفال القريبين من الجاني قد تدلّ على تعرضه لهم".
وتنبّه إلى أن الحديث عن الموضوع وطريقة طرح الأسئلة على الطفل المعتدى عليه تختلف باختلاف عمره، فالطفل بعمر الثلاث سنوات نخاطبه بأسلوب يختلف عن ابن 9 سنوات أو 12 سنة مثلا. وتجدر الإشارة إلى أن للدكتورة المنلا كتاباً بعنوان "العنف الأسري على الطفل، أنواعه، أسبابه، والاضطرابات النفسية الناتجة عنه" الذي يعطي معلومات وافية في إطار الموضوع.
إلى من تتقدم بالشكوى؟
تشير المنلا إلى أن تقديم الشكوى للجهات المعنية يعتبر الخطوة الأساس خلال 24 ساعة على أبعد تقدير، بغض النظر إن عرفت أو لم تعرف هوية المعتدي، فكشف علامات الاعتداء شرط كافٍ لذلك، لأن عدم التبليغ يعني أنها تسهّل تعريض طفلها للاعتداء مجدداً.
وتوضح أنه "في حال لم يمضِ على الواقعة أكثر من 24 ساعة عليها تبليغ الشرطة، وإذا زاد عن ذلك تقدم بلاغاً للنيابة العامة، التي تحيل الطفل، بعد تلقيها الشكوى، إلى الطبيب الشرعي الذي يخضعه للفحوصات اللازمة بكل عناية ومداراة حتى لا يسبب له صدمة جديدة، ويصوّر أية كدمات وخدوش وآثار على جسمه، كما يأخذ أية عينات عالقة على ملابسه مثل الشعر والسائل المنوي وغيرها، ثم يعدّ تقريره ويرفعه للنيابة العامة.
تقول المنلا أن "مِنَ الأهل من يتوجه فوراً إلى الطبيب الشرعي لحفظ الأدلة، وهذا تصرف حكيم، لأن التأخر في التبليغ أو تاخر النيابة العامة في التحرك لأسباب ما يؤدي إلى ضعف أو زوال آثار الاعتداء عن جسم الطفل، وهكذا يسلمون تقرير الطب الشرعي للنيابة العامة".
وتتابع "استناداّ إلى معطيات التقرير، تبدأ النيابة العامة بالتحري عن المعتدي، وتتخذ الإجراءات التي تراها مناسبة مثل توقيفه، أو إبعاده عن الأسرة والمحيط، أو سحب الطفل من منزله أو البيئة الموجود فيها لحمايته، وتدابير لحماية الأسرة أيضاً إذا استوجب الأمر، وغير ذلك"، ويتزامن ذلك مع تبليغ النيابة العامة للاتحاد لحماية الأحداث Upel (تختلف تسمية المؤسسات المعنية من دولة إلى أخرى) بأمر الاعتداء على الطفل، الذي يرسل مساعدة اجتماعية تواكب الطفل منذ لحظات التبليغ الأولى لكي تحميه من التعرض للمزيد من الصدمات، بحسب توضيحها.
كسر ثقافة الصمت
وتشجع المنلا الأمهات على كسر ثقافة الصمت، وتوضح: "إذا كانت الأم على صلة قرابة أو معرفة بالمعتدي، عليها أن تواجهه وتخبره بأنها ستشكوه أو شكته للسلطات، وبأنها لن ترضى باستمرار هذا الوضع"، مشيرة إلى أن "هذه المواجهة تحتاج إلى شخصية قوية وواعية، لأنها ستؤدي إلى انفجار الوضع داخل الأسرة وربما تصدعها بالكامل، وتفتح الباب على مشاكل أسرية كبرى، ورغم ذلك عليها ألا تسكت أو التغاضي عمّا يحصل مهما كانت النتائج".
وتشدد على أن "التبليغ يحرم المعتدي من مواصلة اعتدائه، وتزداد ضرورته إذا كان المعتدي من الأسرة لحماية الطفل من المزيد من الاعتداء والتخويف والترهيب، الذي يمكن أن يحصل ليلاً ونهاراً وخلال الاستحمام وتغيير الملابس، لأن فرص الاعتداء تكون متاحة أكثر".
وتشير إلى أن "ثقافة الصمت هي السائدة غالبا في لبنان والدول العربية عموماً، ثقافة أن نتجاهل ما يحصل، ونتغاضى ونحن نعلم، ونسكت ولا نعترض، ونحاول عدم التصديق بأن هذا ما يحصل مع أطفالنا، ولا نسعى لأي إجراء لأننا نرفض الاعتراف".
إذا كان المعتدي من أهل البيت أو الأقرباء
لا تقلل المنلا من "صعوبة وحساسية الموقف إذا كان المتحرش من الأسرة، مثل الأب أو الأخ أو زوج الأم أو أحد الأقرباء أو الأصدقاء المقربين يجعل القضية أكثر تعقيداً وخطورة"، معتبرة أن هذه الحالة تضغط على بعض الأمهات فيتراجعن عن التبليغ.
وتوضح أنه "في حال كان الأب هو المعتدي مثلاً، يهدد الأم بالطلاق إذا علم أنها ستقدم بلاغاً بحقه، وربما يضربها ويهددها بالاعتداء على أولاده الآخرين، وبقطع المصروف عنها وعن البيت، وبإخراج الأبناء من المدارس، ويصل الأمر ببعضهم إلى ضرب أطفالهم والتحرش بهم أمام الأم، واستخدام أنواع أخرى من الابتزاز والضغط، لذلك عندما تكون الأم بحالة تبعية كاملة للزوج، لا تعمل وغير متعلمة وبدون مدخول، تمتنع عن تقديم الشكوى خوفاً من تشريد الأبناء وتجويعهم، أو تسحبها".
"بعض الأمهات يخفن من الفضيحة أن تلحق بهن وبأطفالهن، ويخفن على مستقبل بناتهن في حال كان لديهن بنات، وعلى زواجهن لاحقاً، في حال تقدمن بالشكوى"، بحسب المنلا، "كما يشعرن بالعار والذنب لعدم تمكنهن من حماية أطفالهن، وعدم توفير التوعية الكافية لهم حتى يتمكنوا من تجنب الاعتداء وحماية أنفسهم".
متابعة الطفل المعتدى عليه
وتُحدثنا عن خطوات ما بعد تقديم الشكوى، وتشير إلى "ضرورة البدء مباشرة بالتأهيل النفسي للطفل، ولأفراد الأسرة إذا لزم الأمر بمساعدة الجمعيات المختصة. فمن المهم أن يحكي الطفل عن تجربته لأن كبتها يسبب له أزمات كثيرة في المستقبل إحداها أن يصير بدوره متحرشاً".
وتؤكد أن الأذى الذي يلحق بالطفل بعد الاعتداء ليس آنياً ومؤقتاً ولا تقتصر أضراره على مرحلة الطفولة فقط، وإنما يدمغ حياته في مراحل عمره اللاحقة إذا لم يخضع لإعادة التأهيل، ويعرضه لمشاكل وأزمات نفسية واجتماعية وعلائقية وجنسية أيضاً، فمنهم من يصاب بالاكتئاب أو يعاني من حياة جنسية غير مستقرة، أو ميول جنسية غير سوية، أو يصبح غير قادر على الارتباط والزواج عندما يصبح راشداً.
وتنبه إلى أن بعض هؤلاء الأطفال بعمر 11 سنة وما فوق يتحولون إلى متحرشين لكي يجعلوا الآخرين يذوقون مرارة التجربة التي عاشوها.
كما تؤكد أن "الجمعيات المعنية بمكافحة العنف والتحرش والاعتداء الجنسي ضد الأطفال تتحرك بمجرد أن يلجأ إليها أهل الضحية، وأيضاً بتكليف من النيابة العامة التي تحدد الإجراءات التي تراها مناسبة، ومن تلك الجمعيات من يوفر دعماً مادياً وقانونياً في حال كانت إمكانيات الأم ضعيفة، ومنها من لديه مراكز حماية للطفل وأسرته في حال وجود خطر يهدد سلامتهم".
وتشير إلى أن التعديلات الجديدة على قانون العقوبات اللبناني، المتعلقة بالتحرش وهتك العرض والاغتصاب، تحمي الطفل، رغم أن بعض المواد لا تزال بحاجة لتعديل. وتعتبر أن القوانين الخاصة بالعنف المنزلي تجعل الأم أقوى وتعطيها حماية أكبر.
وتختم: "من كانت ثقتها ضعيفة بالمراجع المختصة من الأمهات، عليها أن تعلم أن التبليغ صار محمياً، ليس من التحرش والاعتداء الجنسي على القاصرين فحسب، وإنما من العنف المنزلي والتعنيف النفسي مثل الإذلال والتحقير والتجريح".