ربما لم يسبق أن كانت واشنطن مأزومة إلى هذه الدرجة على جبهتي الداخل والخارج في آن معاً. ربما التهاب الأزمات في الداخل ساهم في دفع الخطاب الخارجي نحو لغة التهديد غير المألوفة التي استخدمت في الآونة الأخيرة، وخصوصاً أنها تأتي على أرضية علاقات متوترة أكثر من أي وقت مضى، وعلى أكثر من جبهة: متردية مع موسكو، ومتدهورة مع الصين، ومقطوعة مع رام الله، وقريبة من الانفجار مع طهران.
سفيرة واشنطن لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كاي بيلي هاتشيسون، لوحت، قبل 3 أيام، باستخدام القوة لـ"إزالة" منظومة صواريخ روسية نووية متوسطة المدى، 1000 إلى 5500 كلم، نصبتها موسكو على حدودها الغربية القريبة من بولندا، بحجة أنها تهدد الغرب ومخالفة لاتفاقية الحد من هذا السلاح المعقودة مع واشنطن في 1987.
تصريحها أثار ضجة وكثيرا من الاستغراب في واشنطن، سارعت الإدارة إلى لفلفته بزعم أنه زلة لسان قصدت به السفيرة "تعزيز وسائل الردع" الأميركية التي تتكفل بإزالة مفعول المنظومة، كما قالت الناطقة في وزارة الخارجية هيذر ناورت. لكن كلامها "عزز مخاوف موسكو"، حسب الخبير النووي جفري لويس، بما أن روسيا "تعتقد، ومنذ سنوات، بأن واشنطن تعمل سراً على تزويد شبكة صواريخها في بولندا برؤوس نووية".
تبع ذلك مخاطبة مع الصين، تقترب من لغة الإنذار. ففي كلمة له أمس في مؤسسة هدسو المحافظة للدراسات والأبحاث في واشنطن، حذر نائب الرئيس، مايك بنس، بكين من عواقب "سياسة الاستفزاز التي تمارسها مع واشنطن، من خلال محاولاتها للتدخل في الشؤون الأميركية الداخلية، وبالتحديد الانتخابية، وبشكل يبدو التدخل الروسي باهتاً بالمقارنة معه".
واتهم بنس الصين بالعمل على "تقويض رئاسة دونالد ترامب، لأنه تصدى لها في الملف التجاري".
وكانت لهجة نائب الرئيس الأميركي أكثر حدة عندما شدد على أن واشنطن "عازمة على مواصلة عملياتها الجوية والبحرية حيثما يسمح لها القانون الدولي، وتقتضي مصالحها القومية، حيث إننا لن نرضخ للترهيب، ولن نقف في الموقع الأدنى". وكان في ذلك يشير إلى اقتراب سفينة حربية صينية على مسافة 40 متراً من إحدى بوارج الأسطول الأميركي، التي كانت تبحر في مياه بحر جنوب الصين، في عملية "مضايقة طائشة" كما سمّاها.
لغة لا تخفى فيها مسحة التحدي الذي يصرّ فريق من المعنيين في واشنطن على وجوب اعتماده تجاه الصين في محاولتها فرض سيادتها على تلك المساحة البحرية التي تحسبها بكين مدى حيوياً لها.
وبالأسلوب نفسه، عادت الإدارة مرة أخرى إلى الملف الفلسطيني.
مستشار الرئيس جون بولتون أعلن انسحاب واشنطن من البروتوكول المشتق عن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الدولية المعمول بها منذ 1961، لأنها ارتضت النظر بشكوى السلطة الفلسطينية ضد نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
وتبقى حصة الملف الإيراني أكبر ولغة التعامل معه أشدّ وأكثر سخونة في اليومين الأخيرين على التوالي.
قبل يومين أعلن بولتون إنهاء "معاهدة الصداقة" المعقودة سنة 1955 بين واشنطن وطهران، بعد أن استندت إليها محكمة العدل الدولية عند النظر في شكوى إيران ضد العقوبات الأميركية.
وفي الوقت ذاته، أنحت واشنطن باللائمة على المحكمة لقبولها النظر في "قضية ليست من اختصاصها".
وقد تتعرض هذه المحكمة لاحقاً إلى مقاطعة واشنطن، كما جرى مع غيرها من المؤسسات الدولية.
وأمس الخميس، عاد بولتون ليكرر التصويب على طهران، في لقاء مع الصحافة خصصه لبند محاربة "الإرهاب الراديكالي الاسلامي"، فصنف إيران في "المركز الأبرز لرعاية الإرهاب" وإيديولوجيته التي مازالت "قوية ونافذة في أنحاء العالم".
ويأتي هذا التركيز على إيران، ومن خلال بولتون، الذي أضحى الوجه الأبرز لسياسة ترامب الخارجية، على خلفية إشارات وتحذيرات وخطوات أميركية في الأشهر الأخيرة؛ تنذر بالمزيد من التأزم، وربما بما هو أكثر، بين واشنطن وطهران.
سياسة التصعيد شارك فيها وزيرا الدفاع جيمس ماتيس والخارجية مايك بومبيو، وأيضا قائد قوات المنطقة الوسطى الجنرال جوزف فوتيل.
وصدر في هذا السياق، في أغسطس/ آب الماضي، قانون "تفويض الدفاع الوطني" الذي يدعو إلى "تحديد البلدان التي تعمل فيها إيران، مع التركيز على العراق، وتوظيف التكنولوجيا والتدابير اللازمة لمواجهة نشاطاتها". وقد طالب الكونغرس بـ"تقارير حول التقدم في هذا المسار".
وجاء استهداف القنصلية الأميركية في البصرة ليشحن موقف الإدارة بالمزيد من التشدد تجاه إيران، التي "عليها أن تفهم أن الولايات المتحدة سترد بسرعة، وبشكل مناسب، على أي هجمات من هذا النوع"، حسب الوزير بومبيو.
ثمة من يقلل من خطورة هذا النهج في التعامل مع الخارج، من باب أنه تعبير عن مقاربة الرئيس ترامب التي تتوسل "هز العصا" كوسيلة لحمل الآخر على الرضوخ أو على التراجع، لكن ممارسة التشدد بالجملة، وفي هذا الوضع الأميركي المضطرب، قد لا تخلو من المجازفة، إذ لم يسبق أن جرى التخاطب مع موسكو بلغة القصف لمواقعها الصاروخية منذ أزمة الصواريخ الكوبية، ولا أيضاً مع الصين، حيث كانت الخلافات وأحياناً الاحتكاكات تتم معالجتها بالاتصالات الهادئة.