عرف العصر العباسي، مثلما يُطلعنا تاريخ الترجمة في العالم العربي، حركةَ ترجمة قوية واكبَها إنتاجُ خطابٍ حولها، مثَّله الجاحظُ تمثيلاً يكاد يكون الوحيدَ والأكثرَ دلالةً، بِوُريقاته في "كتاب الحيوان" التي ضمَّنها تأمّلاته وملاحظاته حول هذه الممارسة، والتي تُجمِل إلى حدّ بعيد كلَّ ما قيل حول فن الترجمة إلى الآن، فكان يُشبِهُ في ذلك الخطيب الروماني شيشيرون الذي ذهب عالِم الترجمة الحديث جورج شتاينر إلى أنه لم يُكتبْ ولم يُقَلْ شيءٌ ذو بال حول فن الترجمة بَعْده.
ليس من الضروري أنْ نكتفي بالنظر إلى الترجمة - مثلما يذهب المُنَظِّر الإسباني فَالَنْتِين غارْثِيَّا يِيبْرا - بصفتها دراسة (نَدْرُسُ الترجمةَ في كليَّة الآداب)، أو منتوجاً (سلَّمتُ الترجمةَ إلى دار النّشر) أو عمليّة وسيرورة (ليست ترجمة الشعر هيّنة)، لأنها كانت دوماً تتجاوز ما يُراد لها أن تلزَمَه.
لقد اختارتِ الترجمةُ لذاتها، منذ القِدم، أن تنهض على أساسٍ يُناقضُ الحكمة اليونانية التي تقول "اعرف نفسَك بنفسك"، والتي قد يُفهَمُ أنها تُقصي الغير تلقائياً مُبعِدةً إياه عن المعرفة أيضاً. ما تكشف عنه الترجمة هو أنها دعوة إلى التعرّف إلى الآخر بتقريبه والاقتراب منه، وأنها رهان على احتضان الثقافة والنصوص المهاجرة صدوراً عن منظور إنساني من قبل ممارسيها وقارئيها؛ ما يُفيد أنّ لها خطاباً مخصوصاً.
ومعلوم أن الخطاب في أبسط تعريفاته هو "اللغة مستعمَلةٌ في سياق" وهو تعريف يصدق على الترجمة؛ فالجَليّ أنها لغةٌ ثانية تعتمد لغةً صدرتْ في سياق أوَّل، وأنّ ما تفعلُه الترجمة هو نقل تلك اللغة إلى سياق مُغاير، ليتأكَّدَ أنها أثَرٌ لنص آخر، وَفْق إيمانويل لِيفِيناس، وأنّ الحقيقة تتكشَّف في وجه الآخر أيضاً، حسب الفيلسوف نفسه، وهذا خطابٌ يَنِمّ عن أنّها ليست تغييراً للغة بلغة أخرى فحسب، وإنما هي تغييرٌ في اللغة والثقافة وتلقيحٌ لهما بالغريب، ووعي بقيمةِ الانفتاح والتنوّع الذي مَصْدره الآخرُ أيضاً.
لكنّ الترجمة تمتلك خطاباً آخر غنيّاً، فهي ليستْ فعلاً محايداً وبريئاً؛ يكتفي بالنقل والتحويل والوساطة عبر الربط بين طرفيْن أو أكثر، بل هي إسهام فاعل في التحديث المجتمعي، ويُمكننا أن نتخيّل في هذا الشأن ما كان يتطلَّع إليه طه حسين بمشروعه التنويري حين عَدَّها ثالثة الأثافي إلى جانب عمليّتيِ التأليف وإحياء التراث، لذلك سهِر بنفسِه على إذاعتها، بل نَعْلمُ أنه تكفَّل هو نفسُه بترجمة أعمال أدبية مهمة إلى العربية.
ومن الإجحاف حَصْر الترجمة في عمليَّةٍ ذاتِ وجهة واحدة، يكون فيها المستقبِلُ دوماً هو التابع الضعيفُ، لأن بإمكانها أن تكون في الاتجاه المضاد، وفي تلك الحال تُتيح للأدب الصغير، أدبِ الهامش والأقليات -وَفْق نظرية الأنساق المتعددة- الفرصةَ للارتقاء إلى أدبٍ كبير، أي أنها تدفع به إلى حدوده القصوى، لَمّا تُقدِّمه ضيفاً على الآداب الكبرى، وهذا خطاب آخر تُضمِره الترجمة، ولا ينبغي الاستهانة به، ولعلَّه الخطاب الذي نجحتْ مجلَّتا "المعتمد" و"كتامة" في ترسيخه والترويج له في المغرب زَمنَ "الحمايةِ".
ولعلَّ خطاب الترجمة الأبرز هو رهانها على الترويج لخطاب فكري أو ديني أو سياسي أو ثقافي مُعارض، غالباً ما ترتابُ فيه أنظمة وأحزابٌ سياسية وأطرافٌ دينيّة، بدعوى أنه يروم إدخالَ الجِدَّة المهدِّدة لمصالحها، ولذلك يكون المترجِم ضحيَّتَها وضحيَّةَ اختياراته، ولعل أقرب مثَال إلينا هو المترجِمَة الإيرانية مَرجان داوري، التي اتُّهِمتْ، بـ"الإفساد في الأرض"، و"القرينة" على ذلك ترجمتها لبعض كتب فرقة دينية أميركية المنشأ تدعى "إكنكار"، فَحُكِم عليها بالإعدام في آذار/مارس الماضي!