خزّان أبو رامي

28 مايو 2015
تأمين المياه معاناة يوميّة (Getty)
+ الخط -

لأشهر عديدة ظلّ أبو رامي يقضي صباحاته أمام شباك الفرن. هناك، كوّن عدداً من الصداقات، في حين كان الضيق واليأس يخطفان ابتسامته المعتادة، حتى تلك الدبلوماسية التي اشتهر بها والتي كانت تضفي على ملامحه السمراء الخشنة بعضاً من الهدوء. أما في المساء، فكان ينقل المياه بالمطرات من البئر المجاور إلى البيت. تروي زوجته أنه "كان ينقلها على دفعات. لكنه لم يعد يقوى على ذلك، بعدما راح يعاني من التواء في ظهره". تضيف: "كل ما كان يصلنا لم يكن يكفي لأكثر من تنظيف المنزل واستعمال الحمّام. أما الاستحمام والغسيل فقد باتا حلماً لا يتحقق إلا نادراً".

بعدما توقف عن العمل وسافر أولاده الثلاثة إلى خارج البلاد، أصيب أبو رامي بالاكتئاب. أقلق ذلك زوجته، فعمدت في أحد الأيام إلى خلع أساور الذهب التي تضعها مذ تزوجت والتي تحوّلت بعد عشرات السنين إلى جزء منها. تطلّب منها الأمر حينها استخدام الصابون لتسهيل خلعها من معصمها، قبل أن تضعها أمام زوجها وتطلب منه بيعها وإنشاء عمل جديد. تقول: "الأساور والقبو الذي نسكنه كانا كل ما نملك، بعدما سُرقت بضائعنا ودمّر القصف المحال".

وكان أبو رامي واحداً من أشهر تجار أسواق حلب القديمة، وقد عمل في بيع القطع واللوحات التقليدية للسواح لنحو ثلاثين عاماً. وعلى الرغم من أنه لم يكن من كبار التجار، إلا أنه كان يحظى بمعارف وعلاقات كثيرة. وهو ما زال حتى اليوم يتقن بعض الجمل الإنجليزية، بعضها عن تاريخ حلب والبعض الآخر في امتداح الجميلات. كذلك، ما زال يحتفظ ببعض الصور مع زائرين أجانب.

يسكن الزوجان في أحد أحياء حلب الغربية الواقعة تحت سيطرة قوات النظام السوري، ويعانيان كجميع السكان من نقص في الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والمواد الغذائية، بالإضافة إلى الارتفاع المتزايد في الأسعار المترافق مع انعدام الدخل. تقول أم رامي: "شيئاً فشيئاً تحوّل شح المياه في حلب إلى نمط حياة. هي لا تأتي إلّا نادراً، قد تأتي بعد عشرة أيام أو أشهر عدّة. ما من قاعدة. وقد تأتي لساعات أو ليوم كامل".

اقرأ أيضاً: عادَ الباعة المتجوّلون في سورية

انطلاقاً من هذه المعاناة الجماعية اليومية وبتمويل من الزوجة، بدأ أبو رامي مشروعه الجديد. اشترى خزاناً كبيراً سعة ألف وخمسمائة ليتر ومولداً كهربائياً صغيراً ومضخة مياه، ووضعها على ظهر سيارة. يقول: "أقوم بتعبئة المياه من الآبار الموجودة في المدينة، وأنقلها إلى بيوت الناس. وأشغّل المولد الكهربائي وأضخ المياه في خزاناتهم. وعندما تفرغ، أعود لتعبئتها من جديد".

الأسعار المعقولة التي يطلبها أبو رامي، جعلته يكسب زبائن كثيرين في خلال أشهر عدّة. يوضح: "أنا لا أبيع المياه، بل أتقاضى أجرة نقلها فقط. وهو ما أتاح لي أن أحظى بطلبيات كبيرة". يضيف: "بعض الشركات التجارية توفر لموظفيها تعبئة خزاناتهم بالمياه، حتى يتمكنوا من الاستحمام. وباتوا أخيراً يطلبون مني ذلك، وهو ما يوفر لي دخلاً مادياً لا بأس به".

يشير أبو رامي إلى أنّ طبيعة العمل ليست سهلة على الإطلاق، إذ يضطر إلى الوقوف لساعات طويلة حتى يحصل على الوقود من المحطة. كذلك يتعرض إلى مضايقات من قبل عناصر الأمن أو الشبيحة في خلال عمله. يقول: "أضطر في كثير من الأحيان إلى دفع رشاوى، حتى يُسمح لي بتعبئة الخزان من مياه بئر ما".

لا يرى عدد كبير من أهالي حلب في تلك الوسائل حلاً لمشكلة انقطاع المياه. كذلك هي لا تصلح للشرب، ويعمد أبو رامي في كل مرة إلى تحذير زبائنه. ويشدد على أنّ خزانات المنازل التي تعبأ بمياه الآبار، لن تصلح بعد اليوم لتخزين مياه الشرب قبل تعقيمها وتعقيم التمديدات المتصلة بها بشكل كامل. ويقول إن "الناس بات يتوجّب عليهم شراء مياه الخزانات وكذلك المياه المعدنية للشرب. فمياه الآبار تتسبب بأمراض كثيرة". لكنه يلفت إلى أن "عبوات المياه المعدنية مرتفعة الثمن بالنسبة إلى الفقراء، لذا يشرب معظم الناس من مياه تلك الآبار". ويشرح أن معظم الآبار في داخل المدينة ارتوازية، حفرت على مستوى ليس بعميق. وهو ما يعني احتمال تسرب مياه الصرف الصحي إليها وتلويثها".

أحمد و خالد وحكمت وعبودة الصغير، هي أسماء من يتذكرهم أبو رامي من زملائه الصغار. فعدد من أطفال المدينة يعمدون إلى توفير المياه للبيوت مثل أبو رامي، لكنهم يلجأون إلى وسائل أكثر بساطة. هم يعبئون المياه في مطرات يضعونها على عربة صغيرة، ومن ثم يبيعونها لمنازل الحي بأسعار رمزية. ويروي أبو رامي مبتسماً عن "أطفال كثيرين يعملون بحمل المياه. بعضهم يحملونها على ظهورهم الصغيرة، وآخرون يجرونها في عربات. جميعهم لا يذهبون إلى المدرسة، في سبيل هذا العمل وتوفير بعض الليرات لذويهم". يضيف بأسى: "ما يخسره هؤلاء الأطفال أكبر مما خسره الكبار بكثير".

على الرغم من كل المتاعب، تلفت أم رامي إلى أن زوجها بات أكثر سعادة في العمل. تضيف أنّها باتت مرتاحة أكثر لجهة الاطمئنان على زوجها، ولجهة الاستحمام الذي باتت تنعم به مرّة كل ثلاثة أيام بخلاف جاراتها.

اقرأ أيضاً: حكاية أم محمود