خالي البيه

28 مايو 2014

id-work

+ الخط -
كنت مراهقة، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما عرض التلفزيون المصري مسلسل "هو وهي"، من بطولة سعاد حسني وأحمد زكي، وتأليف صاحب الروائع، صلاح جاهين، ولاقى المسلسل نجاحاً مشهوداً، إلى درجة أن الشوارع، في غزة، كانت تخلو من المارة، تقريباً، في وقت عرض حلقاته المنفصلة -المتصلة. وأغرمت جداً بحلقة "خالي البيه"، حين غنّت سعاد أغنية جميلة، واعتقدت أنها تغنيها لي، لأن أبي، وفي غير ود، كان يطلق على خالي الوحيد لقب "خالك البيه".
لم يكمل خالي تعليمه، وكان، في يفاعته، عامل بناء، عندما استقر المقام بعائلة أمي في العام 1956 في غزة، بعد عودتهم من بلد النزوح الأول الأردن، ثم تقدم في عمله، حتى أصبح مقاول بناء، يملك المال والقرار، تحت إمرته عمال عديدون. ولم يتوقف عن دعم إخوته الذين أقاموا في المهجر القسري، بين مصر والأردن، وتزوج بعضهم، وآخرون كانوا يكملون تعليمهم الجامعي، ويؤسسون لحياتهم الجديدة.
في بداية انتفاضة الحجارة في 1987، فتحت إسرائيل أبوابها لخالي، كمقاول بناء، لديه خبرة طويلة، فصار يخرج من غزة وعبر معبر إيرز، للعمل داخل الخط الأخضر مع عماله الذين تحت إشرافه، ويحصل نهاية كل أسبوع على مبلغ كبير، يقترب من الراتب الشهري لوالدي الذي جعله هذا الأمر يصرّ على تهكمه بلقب "خالك البيه". وقد ساعد خالي في استمرار عمله ذاك، على الرغم من الوضع السياسي المشحون في تلك الأيام، وتحديد الحكومة الإسرائيلية سناً معيناً لدخول العمال، خطأ بسيط، وقع فيه الموظف الذي طبع الهوية الشخصية لخالي "البيه".
كان خالي من مواليد العام 1943، لكن ذلك الموظف سجل تاريخ ميلاده في العام 1913. وهكذا كان يسمح لخالي بالدخول إلى "إسرائيل" في ذلك الوقت، أي في نهاية الثمانينيات، على اعتبار أن سنه يزيد عن خمسين عاماً.
كثيراً ما كان يضحكني خالي، حين يعود في نهاية الأسبوع، من عمله، ليقضي يومي الجمعة والسبت بيننا، وهو يصف لي الحياة داخل الجزء البعيد من وطننا، وكيف يتمتع الإسرائيليون بخيرات بلادنا التي احتلوها، ثم يتوقف عن السرد،  ليضحك بملء فمه، وتبرز أسنانه النخرة من أثر التدخين، وهو يصف لي مشهد جندي الحراسة على الحدود مع غزة، وهو يتفحص وجه خالي مرّة، ثم يعيد النظر في بطاقة هويته، المسجل فيها تاريخ ميلاده، ويقارن بين ما يراه وما يقرأه، فالأوراق تشير إلى رجل يقترب من السبعين عاماً، فيما يبدو وجه خالي في أواسط الأربعينيات.
لم يحاول خالي أن يغير بيانات هويته الشخصية، حتى مرت السنوات، ومنعت إسرائيل عمال غزة منعاً باتاً من العمل، وساء حاله، حين تقدم به العمر حقيقةً لا تزييفاً، ونفدت مدخراته، وبدأ يحاول الاتصال بإخوته في مصر والأردن، لعل أحدهم يتذكّر ما قدمه له في زمن مضى، ويعينه.
يأتي خالي إلى منزلي، مرة كل أسبوع، قاطعاً مسافة طويلة سيراً على قدميه، ويجلس ليلتقط أنفاسه، وأقدم له الشاي الغامق كما يحب، ويروي لي القصة التي سمعتها، مراتٍ، عن نكران إخوته وجحودهم إياه، ويضحكني، للمرة الألف، حين يبرز بطاقة هويته، ويقول لي: احسبي لي، يا خالي، عمري الآن.
أضحك، وأقول له: عمرك، الآن، مائة عام بالضبط. ثم يغادرني في صمت، وأسرح بعيداً، وأنا أنظر إلى "خالي البيه"، والذي لن أتنكر له، مهما تقدم عمره وساء حاله، ولم أتردد في أن أقدمه لجارتي الأرملة، حين رفعت حاجبيها استغراباً من منظره الرث الذي لا يتلاءم مع وضعي الاجتماعي: نعم هذا هو خالي ... خالي البيه.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.