فقدت قصبة الجزائر المصنّفة تراثاً عالميّاً كثيراً من وجوهها وحرفها وطقوسها. وبقي العم خالد محيوت المتخصّص في النّقش على الخشب
ما إن تأسّست الدولة الزيرية الأمازيغية في عام 971 للميلاد في مدينة الجزائر، حتى بادرت إلى بناء قصبة المدينة، التي باتت تشكّل قلبها وقلعتها الحصينة بأبوابها السبعة. وانتعشت أكثر بعد الدخول العثماني إلى المنطقة في العقد الثاني من القرن الخامس عشر، حيث باتت تضمّ قصور الحكام المدنيين والعسكريين وصولاً إلى الاجتياح الفرنسي عام 1930.
حوّلت الإدارة الفرنسية كثيراً من قصور القصبة وأبنيتها الدالة على الهوية الأمازيغية والعربية إلى ثكنات عسكرية ومقرّات إدارية، وحصرت سكّانها في الأزقّة المعروفة بضيقها والتصاق بيوتها وسطوحها، ما جعلهم مبرمجين على كره الفرنسيين منذ البداية، وهو المعطى الذي حملهم على أن يحافظوا على ملامحهم الثقافية والحضارية، فتصبح القصبة واحدة من أهمّ التجمّعات الدالة على الشخصية الوطنية الجزائرية.
في رحابها، تأسّس أوّل فريق رياضي، وهو مولودية الجزائر في عام 1921 نسبة إلى المولد النبوي، والعديد من الفرق المسرحية والفنية التي ساهمت في تشكيل الوعي الوطني الذي أدى إلى تفجير ثورة التحرير نهاية عام 1954، حيث كان للقصبة دور حاسم فيها، من خلال نخبة من ثوّارها مثل ياسف سعدي (1928) وجميلة بوحيرد (1935).
ومع الاستقلال الوطني منتصف عام 1962، عادت القصبة إلى ممارسة الحياة، فانتعشت فرقها الفنية، واحتضنت تاريخياً إحدى المدارس الموسيقية الأندلسية الثلاث في الفضاء الجزائري هي مدرسة "الصنعة"، بالموازاة مع مدرسة "الغرناطي" في تلمسان غرباً، ومدرسة "المالوف" في قسنطينة شرقاً، إلى جانب انتعاش المهن والحرف اليدوية المتعلّقة بالقماش والنحاس والخشب والحديد.
اقــرأ أيضاً
أدّى هذا الزخم الحضاري والتاريخي والمعماري للقصبة بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو" إلى اعتمادها تراثاً عالمياً عام 1992. وهي السنة نفسها التي انطلقت فيها شرارة العنف والإرهاب في البلاد، ما حوّلها إلى وكر من أوكار الموت، فنزح كثير من الأسر أصيلة المكان وخلفها كثير من الأسر الدخيلة عنه، وانقطع السياح، وأغلقت ورش الحرف أبوابها أو تحوّلت إلى تجارات استهلاكية بلا روح. ورغم سياسات الترميم التي باشرتها الحكومة بعد استرجاع الأمن، إلا أنّ مسحة الكآبة والركود ظلّت مهيمنة على المكان.
من هنا، بات من المثير للفرحة لدى الجزائريين أن يروا حرفياً عائداً إلى ورشته في القصبة، أو تاجراً جديداً تخصّص في السلع التقليدية، مثلما حصل مع العمّ خالد محيوت عام 2001، وقد فتح ورشته المتخصّصة في النجارة الفنية والنقش على الخشب في شارع سيدي دريس حميدوش من الجهة العلوية للقصبة، حيث يمكنك أن تراها باسطة ذراعيها في انحدار نحو البحر، عبر عيون عدة ما زالت تزوّد عابري الأزقّة بالمياه منذ القرن السادش عشر، مثل عين سيدي رمضان وعين المزوّقة وعين بئر جبّاح وعين سيدي بنّالي.
دخلت "العربي الجديد" ورشة العمّ خالد محيوت صباحاً، فأشرق وجهه كأنه استقبل إنساناً عزيزاً عليه. "إنّني أرى في كلّ وافد علي إنساناً عزيزاً، لأنه سيمنح فرصة لحرفتي التي أحبّها أن تنتشر من جديد، من خلال ما يكتب عنها أو يحكيه لمعارفه. فالحرف مثل الصبايا يتزوجن بكثرة الحديث عن مزاياهنّ". وقد ترجم هذه الروح فعلاً، من خلال منحنا إحساساً بأنّنا في المكان المريح، إذ انطلق يسرد مساره، معزّزاً كلامه بتعابير وجهه حزناً وفرحاً، من غير أن نطلب منه ذلك.
"هنا كان يقف المرحوم أبي عام 1965"، يقول محيوت، "حين دخلت عليه في العاشرة من عمري، وقلت له إنني موافق على أن أتعلّم منه الحرفة". أبدى من السّرور ما قال، إنّه أبداه يوم ولادتي. لقد قال لي عبارة ما زلت أتذكّرها كلّما تعبت أو يئست أو أغريت بحرفة أخرى، فالحرفي الجزائري اليوم يتعرّض لهذا كلّه، بالنّظر إلى الإهمال الذي يعانيه. هذه العبارة هي: "يا ولدي، حين يخرج الطفل إلى الحياة يكون قد وُلد لأبيه، لكنّه يولد لنفسه يوم يتعلّم حرفة".
يقول العم خالد إنّه كان ينطلق إلى المدرسة من ورشة أبيه، ويعود إليها بعد نهاية الدراسة في آخر اليوم. "لاحظ أبي شغفي بتعلّم النقش على الخشب، فاستثمر فيّ بجلب الهدايا لي والثناء علي حتى وإن أخطأت، ما جعلني أتعلّم سريعاً". سها، بينما كان يحمل إزميله، فكأنّه كان يستحضر أبيه واللحظات التي كان يرافقه فيها في خلق نقوش على خزانة أو مهد أو نافذة أو باب أو آلة موسيقية، وهي معظم ما يشتغل عليه. يقول: "كان أبي يردّد الأغاني الشعبية لحظة النقش، وقد أدركت فيما بعد أنّه كان يترجم معاني تلك الأغاني إلى نقوش".
"اسمع يا ولدي"، يقول العم خالد، "فهناك فرق بين من يبحث عن المال من خلال حرفته، ومن يبحث عن إسعاد الناس والحفاظ على ذاكرة الإنسان والمكان. الأوّل لن يتردّد لحظة في استبدالها كلّما أتيح له ذلك، بينما يتمسّك بها الثاني حتّى وإن أصبحت مصدراً لفقره لا لرزقه". نسأله: أيّ الأمرين فعلت بك حرفتك؟. يجيب: "هل ترى هذا البيت بطوابقه الثلاثة؟ سيدرّ علي تأجيره ثلاثة أضعاف مما أجنيه من تعب عشر ساعات في اليوم. مع ذلك رفضت أن أترك حرفتي أو أستبدلها، وما أن خبت جمرة العنف والإرهاب حتى عدت إليها عام 2001 كما يعود الولد إلى حضن أمّه بعد هجرة أرغم عليها".
ينتمي بيت العمّ خالد إلى معمار القصبة الموروث عن العهد العثماني، حيث تفتح النوافذ والأبواب على الدّاخل انسجاماً مع ثقافة الحريم. وقد فتح سطحه المطلّ على القصبة كلّها لكلّ من يرغب في رؤيتها والتقاط صور لها/ معها. نوينا مسبقاً أن نعدّ السياح الوافدين على المكان، فكان أن قصد الورشة 23 سائحاً وسائحة من فرنسا والبرتغال والنمسا والصين، وفريق تلفزيوني من قناة تلفزيونية جزائرية خاصة. وكان العمّ خالد يستقبل الجميع ويشرح لهم أسرار البيت والحرفة، من غير أن يتقاضى ديناراً واحداً "كيف أقبض من ضيف جاء ليعرف ملامح وجهي وذاكرة جدّي؟".
اقــرأ أيضاً
دفع حبّ هذه الذاكرة راهب القصبة إلى أن يقنع ولده أسامة أن يتعلّم على يديه، وأن يبرم اتفاقية مع مؤسسة التكوين المهني تقضي أن يعلّم الراغبين في ذلك من الشباب. وقد رأيناه يعلّق بنفسه الإعلان الخاص بالورشة التكوينية، وهو يدعو الله أن يلتفت الشباب إليه. يقول: "ناضلنا من أجل اعتماد يوم وطني للحرفي هو 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، وعلينا أن نناضل أكثر من أجل أن نستعيد حرفنا المطموسة لنسترجع بذلك جذورنا".
ما إن تأسّست الدولة الزيرية الأمازيغية في عام 971 للميلاد في مدينة الجزائر، حتى بادرت إلى بناء قصبة المدينة، التي باتت تشكّل قلبها وقلعتها الحصينة بأبوابها السبعة. وانتعشت أكثر بعد الدخول العثماني إلى المنطقة في العقد الثاني من القرن الخامس عشر، حيث باتت تضمّ قصور الحكام المدنيين والعسكريين وصولاً إلى الاجتياح الفرنسي عام 1930.
حوّلت الإدارة الفرنسية كثيراً من قصور القصبة وأبنيتها الدالة على الهوية الأمازيغية والعربية إلى ثكنات عسكرية ومقرّات إدارية، وحصرت سكّانها في الأزقّة المعروفة بضيقها والتصاق بيوتها وسطوحها، ما جعلهم مبرمجين على كره الفرنسيين منذ البداية، وهو المعطى الذي حملهم على أن يحافظوا على ملامحهم الثقافية والحضارية، فتصبح القصبة واحدة من أهمّ التجمّعات الدالة على الشخصية الوطنية الجزائرية.
في رحابها، تأسّس أوّل فريق رياضي، وهو مولودية الجزائر في عام 1921 نسبة إلى المولد النبوي، والعديد من الفرق المسرحية والفنية التي ساهمت في تشكيل الوعي الوطني الذي أدى إلى تفجير ثورة التحرير نهاية عام 1954، حيث كان للقصبة دور حاسم فيها، من خلال نخبة من ثوّارها مثل ياسف سعدي (1928) وجميلة بوحيرد (1935).
ومع الاستقلال الوطني منتصف عام 1962، عادت القصبة إلى ممارسة الحياة، فانتعشت فرقها الفنية، واحتضنت تاريخياً إحدى المدارس الموسيقية الأندلسية الثلاث في الفضاء الجزائري هي مدرسة "الصنعة"، بالموازاة مع مدرسة "الغرناطي" في تلمسان غرباً، ومدرسة "المالوف" في قسنطينة شرقاً، إلى جانب انتعاش المهن والحرف اليدوية المتعلّقة بالقماش والنحاس والخشب والحديد.
من هنا، بات من المثير للفرحة لدى الجزائريين أن يروا حرفياً عائداً إلى ورشته في القصبة، أو تاجراً جديداً تخصّص في السلع التقليدية، مثلما حصل مع العمّ خالد محيوت عام 2001، وقد فتح ورشته المتخصّصة في النجارة الفنية والنقش على الخشب في شارع سيدي دريس حميدوش من الجهة العلوية للقصبة، حيث يمكنك أن تراها باسطة ذراعيها في انحدار نحو البحر، عبر عيون عدة ما زالت تزوّد عابري الأزقّة بالمياه منذ القرن السادش عشر، مثل عين سيدي رمضان وعين المزوّقة وعين بئر جبّاح وعين سيدي بنّالي.
دخلت "العربي الجديد" ورشة العمّ خالد محيوت صباحاً، فأشرق وجهه كأنه استقبل إنساناً عزيزاً عليه. "إنّني أرى في كلّ وافد علي إنساناً عزيزاً، لأنه سيمنح فرصة لحرفتي التي أحبّها أن تنتشر من جديد، من خلال ما يكتب عنها أو يحكيه لمعارفه. فالحرف مثل الصبايا يتزوجن بكثرة الحديث عن مزاياهنّ". وقد ترجم هذه الروح فعلاً، من خلال منحنا إحساساً بأنّنا في المكان المريح، إذ انطلق يسرد مساره، معزّزاً كلامه بتعابير وجهه حزناً وفرحاً، من غير أن نطلب منه ذلك.
"هنا كان يقف المرحوم أبي عام 1965"، يقول محيوت، "حين دخلت عليه في العاشرة من عمري، وقلت له إنني موافق على أن أتعلّم منه الحرفة". أبدى من السّرور ما قال، إنّه أبداه يوم ولادتي. لقد قال لي عبارة ما زلت أتذكّرها كلّما تعبت أو يئست أو أغريت بحرفة أخرى، فالحرفي الجزائري اليوم يتعرّض لهذا كلّه، بالنّظر إلى الإهمال الذي يعانيه. هذه العبارة هي: "يا ولدي، حين يخرج الطفل إلى الحياة يكون قد وُلد لأبيه، لكنّه يولد لنفسه يوم يتعلّم حرفة".
يقول العم خالد إنّه كان ينطلق إلى المدرسة من ورشة أبيه، ويعود إليها بعد نهاية الدراسة في آخر اليوم. "لاحظ أبي شغفي بتعلّم النقش على الخشب، فاستثمر فيّ بجلب الهدايا لي والثناء علي حتى وإن أخطأت، ما جعلني أتعلّم سريعاً". سها، بينما كان يحمل إزميله، فكأنّه كان يستحضر أبيه واللحظات التي كان يرافقه فيها في خلق نقوش على خزانة أو مهد أو نافذة أو باب أو آلة موسيقية، وهي معظم ما يشتغل عليه. يقول: "كان أبي يردّد الأغاني الشعبية لحظة النقش، وقد أدركت فيما بعد أنّه كان يترجم معاني تلك الأغاني إلى نقوش".
"اسمع يا ولدي"، يقول العم خالد، "فهناك فرق بين من يبحث عن المال من خلال حرفته، ومن يبحث عن إسعاد الناس والحفاظ على ذاكرة الإنسان والمكان. الأوّل لن يتردّد لحظة في استبدالها كلّما أتيح له ذلك، بينما يتمسّك بها الثاني حتّى وإن أصبحت مصدراً لفقره لا لرزقه". نسأله: أيّ الأمرين فعلت بك حرفتك؟. يجيب: "هل ترى هذا البيت بطوابقه الثلاثة؟ سيدرّ علي تأجيره ثلاثة أضعاف مما أجنيه من تعب عشر ساعات في اليوم. مع ذلك رفضت أن أترك حرفتي أو أستبدلها، وما أن خبت جمرة العنف والإرهاب حتى عدت إليها عام 2001 كما يعود الولد إلى حضن أمّه بعد هجرة أرغم عليها".
ينتمي بيت العمّ خالد إلى معمار القصبة الموروث عن العهد العثماني، حيث تفتح النوافذ والأبواب على الدّاخل انسجاماً مع ثقافة الحريم. وقد فتح سطحه المطلّ على القصبة كلّها لكلّ من يرغب في رؤيتها والتقاط صور لها/ معها. نوينا مسبقاً أن نعدّ السياح الوافدين على المكان، فكان أن قصد الورشة 23 سائحاً وسائحة من فرنسا والبرتغال والنمسا والصين، وفريق تلفزيوني من قناة تلفزيونية جزائرية خاصة. وكان العمّ خالد يستقبل الجميع ويشرح لهم أسرار البيت والحرفة، من غير أن يتقاضى ديناراً واحداً "كيف أقبض من ضيف جاء ليعرف ملامح وجهي وذاكرة جدّي؟".