منذ قرابة عقدين، تُطلّ أجساد خالد الخاني معبّرة عن شقاء الإنسان المطلق، تحيط بها هالة من الغموض، وتتحرّك في مشهد محتشد كأنها تحتفل ببؤسها الآدمي، وكأن التقاءها في المكان/ اللوحة يشير إلى نهاية تراجيدية لمأسأة وجودها أو عذاباتها الأبدية.
بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في بلاده عام 2011، ذهب الفنان السوري (1975) إلى صياغات أكثر وضوحاً لذات الكائنات التي لم تغادر أعماله، منبعها ذاكرة قمع طويلة يرى صاحبها أنه احتفظ بها دون أن ترتبط مفرداتها بمكان محدّد أو حادثة معينة باعتبارها وثيقة موازية من الألم والعذابات.
"جسد القدر" عنوان معرضه الجديد الذي افتتح في "غاليري شواب بوبور" في باريس الخميس الماضي (21 تشرين الثاني)، ويتواصل حتى السابع من الشهر المقبل، ويضمّ لوحات تتنوّع لونياً خلافاً لأعماله السابقة التي هيمن عليها الأحمر، وإن بقي حاضراً في عددٍ منها.
يشكّل اللون جزءاً أساسياً من سردية الخاني التي تعتمد على ذلك التدفق العاطفي الدرامي، حيث تسير شخصياته إلى أقصى درجات تأهّبها وقلقها، وإن كان سابقاً يُصرّ على أن تظهر في طقس جماعي ويتركها في حالة اشتباك مع المتلقّي، فإنه بات اليوم يفضّل ظهور كل شخصية منفردة في مواجهة مفتوحة معه.
واختار الخاني أن تكون شخصياته أنثوية، وتعانق معظمهن أو تمتزج مع كتل لونية غير واضحة الملامح، إلّا أنها توحي ببقايا أشلاء أو شظايا أو فوضى أو ركام حيواتها التي تحملها معها أينما حلّت وارتحلت، وهي تختلط بتضاريس جسدها وتموّجاته، وكلّها تحيل إلى الواقع المأساوي الذي تعيشه سورية منذ أكثر من ثمانية أعوام.
حافظ الفنان على تلك التعابير المشبعة بالمشاعر لوجوه نسائه دون أن يعرّف بتقاسيمها أو تفاصيلها؛ حيث عيونها مطفأة على الدوام لأنها اقتُعلت من مكانها أو لم يعد هناك ما تودّ رؤيته، في امتداد لأسلوبه الذي يرتكز على تصوير كوابيس الحياة وخرابها، لكن دون الانغماس في معطيات واقعية أو متحقّقة، أو الانجرار إلى بعد تزييني تحيل لوحته إلى مناخات سوريالية أو غرائبية.
يُشير الناقد الفرنسي كريستيان نوربرغن في تقديمه للمعرض إلى ذلك العنف اللوني الذي يعبّر عنه اللون الأحمر فوق سطح اللوحة، متناقضاً مع الرمادي الذي يمثّل أفق السماء كنهاية صافية للتوتر والصخب والضوضاء، وكأنها حدود لا نهائية للحياة.
التباين الحاد في التوظيف اللوني لدى الخاني، سمة تعبر جميع أعماله، ضمن بحث بصري حول علاقة الضوء والعتمة التي عالجها بتنويعات مختلفة في تركيز على تناغمها الجمالي، وهي تعبّر عن دوامّة التناقضات التي يحياها الإنسان دون أن يصل إلى خاتمة، في تكريس لذلك الحوار بين اللوحة وخارجها.
لا يخرج عنوان المعرض عن الثيمة المركزية، كما قدّمها في معارض سابقة، والمتمثّلة في بطولة الإنسان العادي ووقوفه عارياً أمام المذبحة، ومواصلة رواية وقائعها التي تفيض ألوانها بكلّ هذه الحرارة والوجع.