خافييه مارياس ؛ الغفران مفتاحًا وحيدًا

08 ديسمبر 2014
وقائع مُتشعّبة مُخضّبة وحكاية مُفعمة بالدسائس والفكاهة
+ الخط -
يبدأ السرد في رواية "هكذا يبدأ الأسوأ" لخافييه مارياس من العنوان نفسه، المقتبس من مسرحية شكسبير الشهيرة "هاملت": "هكذا يبدأ السوء ويبقى الأسوأ في أعقابه". هي تأمّلاتٌ تنهض من سنوات الشباب، حيث الرؤية الجزئيّة للحقيقة والسيرغير المتوازن في العالم، حين يكون "حضور كلٍّ من الروح والوعي مُؤجّلاً".

ثمّة في الرواية ما يشي على الدوام، بسلطة الرغبة على حياة الأشخاص كأحد المحرّكات الهادرة؛ وهي مشحونة بإيروتيكيّة إضافية. وهي تأمّلات في استعداد الإنسان لترك قضايا جسيمة تمرّ من دون حساب، فيما يسعى بتأثيرٍ غامض ليطالب بإلحاق العقاب حِيال أمور تافهة. 

سيكتشف الراوي أن لا وجود لعدالة لا تقوم على مصالحَ شخصية، فهي دائماً مُلوّثة بالحقد وبالرغبات، وأن كليهما الغفران والعقاب فِعلان اعتباطيان. وفي النهاية لا يمكن سَوق بلد بأكمله أو حتى نصفه إلى قفص الاتّهام. الطغاة فقط من يفعلون هذا! بخاصّة في بلد تمّ الاتفاق فيه على عدم محاكمة أتباع فرانكو المذنبين، ليُمسي الغفران مفتاحًا وحيدًا لبيتٍ تنمو في داخله ديمقراطية غضّة. 

تلاحق الرواية الفخاخ التي تنصبها الحقيقة من أجل رفع الغطاء عن الأسرار وافتضاحها: معرفتها وكشفها، معرفتها والسكوت عنها. قد تبدو قصصًا بلا جدوى أحيانًا، فيها نمائمُ وألاعيبُ واستطراد في التعمّق والتنقيب، ولكنها في آنٍ تفاصيلُ وسمتْ تلك الحقبة، وتنتمي إلى طبيعة الحياة اليومية فيها.

ماريّاس الشابُّ الذي كان، هو نفسه الراوي خُوان، ذو الثلاث والعشرين سنة، يستحضر مشاهدَ من ماضيه، ويدع نفسه، بين حينٍ وآخر، تسترسل في التفكّر بصوتٍ رزين يُضفي على التأمّلات زخمًا وصدقيّة. تدور أحداث الرواية في مدريد، في العام 1980.

يبدأ خوان دي بيري، الذي أتمّ حديثاً دراسته في الأدب الإنكليزي، العمل كسكرتير شخصيّ ومستشار في شؤون الترجمة لدى إدواردو مُورييل، مخرج السينما الغريب الأطوار الذي اشتُهر في السنوات الأخيرة، وزوجته بياتريث نوغيرا. يُتيح له العمل في بيت العائلة، أن يصير متفرّجًا من الداخل على علاقة زوجية مُلغِزة، تسطو عليها التعاسة وسوء الحظّ منذ عشرين سنة. يستمع إلى ما يروونه من حكايات خافتة عن حياتهما الشخصية، هي أحياناً تلك التي لا تُروى أبدًا.

ستأتي لحظات مصيريّة في حياة خوان يرى فيها نفسه "مرغماً" أو بحاجة ليُفشي أسرارًا ويسكت عن أخرى. في خط موازٍ، يُوكله مورييل بمهمّة استطلاع أسرار الدكتور خورخي من طريق الحيلة والخديعة، إذ تصلُ مورييل إشاعاتٌ وأقاويل عن السلوك الشائِن في الماضي لصديق عمره. لكن خوان لا يكتفي بذلك، بل يقوم من تلقاء نفسه بمبادرات تعتريها شُبهات، فهو -الناضج- نفسه يُقرّ بأنّ مرحلة الشباب تستدعي ذلك "التأجيل".

وعندما يتحرّى سيرة الرجل، تطفو على السطح حقائق مرتبطة بالفترة التي أعقبت الحرب الأهلية، وبالمجتمع الذي عايشها؛ ليست قاسية، ولكنها لا تنجو من البُغض. تظهر سيرة الطبيب مشحونة بتراجيديا ولعنات لا تكفّ عن ملاحقته، من دون معرفة ما هو وجه الصواب والعدل في كلّ أمر.

سرعان ما يتخلّى مورييل عن رغبته في معرفة المزيد خِشية خسران صداقته بخورخي إذا ما نبش تحتها عميقاً، مدركاً أنه سيكون الأبله الوحيد في بلدٍ لا أحد فيه يقوم بذلك.


المساهمون