وأعادت الحرب شمالاً، دور ونفوذ القوى العسكرية الشمالية المعارضة لصالح والمحسوبة على اللواء علي محسن الأحمر، من خلال الألوية التي انحازت للشرعية و"المقاومة" التي تشكّلت في تعز ومأرب. وكان العسكريون المحسوبون على الفرقة الأولى مدرع المنحلة، جزءاً من تشكّل هذه "المقاومة"، وبات دورها أقوى من خلال معسكر التدريب القريب من الحدود مع السعودية في منطقة "العبر"، والذي استقطب آلاف العسكريين والمجندين لدعم "المقاومة".
أما جنوباً، فقد عاد دور العسكرية الجنوبية من خلال جبهات "المقاومة" التي قادها عسكريون جنوبيون ومن ثم معسكرات التجنيد التي أنشأها المقاومون، خصوصاً في محافظة الضالع، مركز الثقل العسكري الجنوبي سابقاً.
وفي محافظة حضرموت، والتي كانت مهمشة عسكرياً في عهد الجنوب أو عهد الوحدة، بدأت ملامح نشوء عسكرية حضرمية من خلال التجنيد الذي يتم بإشراف التحالف العربي، والتغييرات الأخيرة التي أجراها الرئيس عبدربه منصور هادي، إذ عيّن قادة عسكريين من المستوى القيادي الأول والثاني والثالث، من أبناء حضرموت، وذلك في المنطقة العسكرية الثانية (المكلا ومحيطها).
وبهذه التغييرات، بقي الوجود العسكري للألوية المكوّنة في أغلبها من شماليين، في المنطقة العسكرية الأولى في حضرموت، وهي عموماً المنطقة الوحيدة التي بقيت بعيدة عن الانهيار وعن القصف من قوات التحالف، بسبب إعلان قيادتها الولاء للشرعية.
وبناء على المعطيات السابقة، تقلّص النفوذ العسكري لصالح من السيطرة على مختلف مناطق اليمن، ليصبح محصوراً في صنعاء ومحافظات شمالية محدودة يمكن أن تسقط لاحقاً، وفي المقابل عاد نفوذ معارضيه الشماليين من خلال التواجد في مأرب، وبدأت ملامح نشوء دور عسكري جديد لتعز، بعد أن كانت مهمشة منذ صراع ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وفي الجنوب عادت عسكرية الضالع التي تعرضت للتهميش بعد حرب 1994، وبدأت تصعد عسكرية حضرمية وتتصدر الأدوار للمرة الأولى سواء على مستوى اليمن الموحّد بعد 1990 أو على مستوى اليمن المشطر بعد الثورة اليمنية (سبتمبر/أيلول 1962-أكتوبر/تشرين الأول 1963).
وعلى ضوء هذه التغييرات الجذرية في الموازين العسكرية، يبدو اليمن أمام مرحلة مختلفة عن كل ما سبق، ويُعتبر التطور ذا حدين: الأول، أنه يوزع النفوذ العسكري بشكل عادل ويعطي لمختلف المناطق أهميتها ويكسر قوة السيطرة لمناطق دون الأخرى، ومن جهة أخرى، وفي حال بقي الصراع مستمراً، فإن توزع القوى العسكرية وتأسيسها مناطقياً قد يشجع على التقسيم، وكل ذلك يعتمد على مدى جدية وقدرة دول التحالف العربي على ترسيخ دعائم نظام جديد يحفظ وحدة البلاد.
اقرأ أيضاً: تعيينات هادي بالمنطقة الثانية تعيد ترتيب أوضاع حضرموت عسكرياً
تفوّق شمالي تاريخي
بدأ الصراع على النفوذ والهيمنة في الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية في السنوات الأولى من عمر الجمهورية في شمال البلاد، بعد ثورة سبتمبر/أيلول 1962، وكان يتخذ صيغة مناطقية نوعاً ما، بين عسكريي صنعاء ومحيطها وعسكريي تعز، وكلاهما (صنعاء وتعز) أبرز مركزين شمالاً، وانتهى الصراع إلى غلبة المركز (صنعاء ومحيطها ذمار وعمران) بينما تراجع نفوذ تعز وما حولها في الجيش، وتركّز تأثيرها في الجانب السياسي والمدني في أجهزة الدولة.
جنوباً، أفرز وضع ما بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1963، نظاماً مركزياً عمل على قمع الهويات المحلية الانفصالية في الجنوب والشرق، وتركّز النفوذ العسكري في جزأين هما الضالع ولحج من جهة، وأبين وشبوة من الجهة الأخرى، وكان للصراع المناطقي بين هذين المركزين (الضالع-أبين)، دور في تفجر الحرب الأهلية عام 1986، والتي قُتل فيها الآلاف من الطرفين ونزح الكثير من عسكريي أبين باتجاه الشمال، وتصدّر عسكريو الضالع السيطرة على الحكم في عدن، قبل أربع سنوات من الوحدة.
بعد توحّد اليمن لم يتم دمج جيشي الشطرين، وبقيت مراكز القوى العسكرية على حالها لتكون أحد عوامل تفجّر الحرب الأهلية عام 1994، وفي هذه الحرب كانت العسكرية التي مركز ثقلها الضالع ولحج في الصف الجنوبي، بينما كان المركز العسكري الشمالي متحالفاً مع عسكريي أبين (الجنوبيين النازحين إلى الشمال، ومنهم عبدربه منصور هادي، والذي تسلّم منصب نائب الرئيس بعد الحرب وصعد بعد ثورة 2011 إلى منصب رئيس الجمهورية).
انتهت حرب 1994 بانتصار عسكرية صنعاء ومن تحالف معها، وبعد الحرب، جرت إزاحة آلاف الكوادر العسكرية والأمنية الجنوبية، ليصبح مركز صنعاء العسكري ومحيطها المهيمن الأول في البلاد. وفي هذه الفترة بدأت مرحلة تصفيات مراكز القوى الشمالية في ما بينها، إذ إن عسكرية صنعاء بقيادة صالح كانت بالتحالف مع قبيلة حاشد التي يتزعمها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، ومع جنرالات بارزين مثل اللواء علي محسن الأحمر، المقرّب من التيارات الإسلامية.
بدأ صالح تدريجياً بإزاحة مراكز النفوذ العسكري لشركائه، وفي مقدمتهم قائد الفرقة الأولى مدرع اللواء الأحمر الذي يتحدر وصالح من قرية واحدة، غير أن الرئيس المخلوع بدأ بتقوية نفوذ نجله الصاعد، أحمد علي صالح، قائد الحرس الجمهوري، وإضعاف القوى العسكرية الأخرى والجنرالات. وتم إضعاف الفرقة الأولى بحروب صعدة مع الحوثيين، ولم تكد تندلع ثورة 2011 إلا وكشف الصراع داخل المؤسسة العسكرية عن نفسه لأول مرة، إذ أعلن اللواء الأحمر والعديد من الجنرالات وقادة الجيش تأييدهم الثورة، بينما بقي جزء كبير من الجيش في كفة صالح وهو الذي يقوده نجله.
في الفصل الأخير قبل العاصفة، استفاد صالح من صعود الحوثيين لضرب ما تبقى من قوى محسوبة على نده اللواء الأحمر، والذي غادر إلى الرياض عقب سقوط القاعدة الرئيسية للقوات المحسوبة عليه، في صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014 تاريخ دخول الحوثيين صنعاء. وبذلك أصبح صالح النافذ الأول على أغلبية ما تبقى من قوات الجيش المرابطة في مختلف أنحاء البلاد.
اقرأ أيضاً: معركة الشمال... قوات خاصّة من منطقة العبر بقيادة المقدشي