مرّ أكثر من شهر على انفجار مرفأ بيروت، لكنّ القصص المروّعة لأحداث ما بعد الرابع من آب/ أغسطس الماضي، لا تنتهي. يوم ثلاثاء عادي، كانت صحافيات لبنانيات يمارسن عملهنّ، داخل مكاتب مؤسساتهن، وخارجها، قبل أن يأتي الانفجار ويدمّر هذه المكاتب.
تحصي مؤسسة "عيون سمير قصير/ سكايز" 28 مؤسسة تضرّرت مكاتبها جرّاء الانفجار، بينها "العربي الجديد" و"النهار" و"ميغافون" التي طاولتها أضرار جسيمة، فضلاً عن 20 إصابة في المكاتب، و16 في المنزل، و8 ميدانية. في حديثهنّ لـ"العربي الجديد"، تروي ثلاث صحافيات تضرّرت مكاتبهنّ، التجربة المروعة، في ظلّ الصدمة وضرورة الاستمرار في التغطية.
حين انفجر مكتب الصحيفة
يوم الرابع من أغسطس/ آب الماضي، كانت صحيفة "النهار" اللبنانية تُطلق نسختها "النهار العربي". نتيجة لذلك، حضر عدد من العاملين في المكاتب، وبدأوا التحضيرات باكراً، واستمرّوا حتى المساء. كان يوماً مليئاً بالعمل بالنسبة إلى مسؤولة قسم التواصل الاجتماعي في الصحيفة، رين بو موسى، فلازمت مكتبها منذ مساء اليوم السابق، لتُنهي التحضيرات للمنشورات التي كان يجب أن تشاركها الصحيفة.
عملت طوال الليل حتى صباح اليوم التالي، حين بدأ التعب يُنهك جسدها. واصلت العمل حتى بعد الظهر، لكنّها لم تُغادر، فكانت هناك مقابلةٌ تحتاج متابعتها عند السادسة والنصف مساءً. أغمضت رين عينيها قليلاً، وتناولت الغداء، ثم أعادت المتابعة. عند الساعة السادسة، دخل أحد زملائها المكتب، متحدثاً عن حريق هائل في مرفأ بيروت. سمعت رين أصواتاً غريبة في الخارج، فاقتربت من النوافذ في الطابق السادس لتصوير الخبر، وإرساله لنشره. حملت هاتفها، ولم تستطع أن تضغط زرّ التشغيل: انفجار. هرعت رين كي تختبئ، لكنّها لم تصل: حدث الانفجار الكبير. فقدت وعيها.
في المكتب مع رين، كان هناك 5 زملاء، حسبما تروي لـ"العربي الجديد". ترى لحظة الانفجار، بعد شهرٍ على حدوثه، وكأنّه يحدث اليوم. لا تزال تسمع أصوات الزجاج والتكسير.
حين استعادت رين وعيها، فتحت عينيها وتفقدت جوارها. أحسّت بأنّها غير قادرة على النهوض، ثم فكّرت: هذا ليس وقت الانهيار. وقفت، والدم يسيل منها، ولا تدرك حجم إصاباتها بعد، اطمأنّت على زملائها، وبدأت رحلة البحث عن شقيقها الأصغر إيلي، زميلها في الصحيفة أيضاً. وجدته، بعد شقاءٍ، وكان ينزف من رأسه. "اعتقدت أنّه فقد عينه، قلتُ لا بأس، المهم أنّه على قيد الحياة". عادت بعدها إلى مكتبها كي تلملم أغراضها. بدأت بحثّ الجميع على النهوض ومغادرة الطابق، لربّما حدثت ضربة أخرى، فيما كانت زميلةٌ لها غير قادرة على المشي، فحملها زميل آخر.
تتذكر الصحافية اللبنانية ما حصل بعد ذلك بشكل ضبابي: وصلت إلى الطابق الأرضي، فوجدت فتاةً على الأرض. حاولت أن تساعدها على النهوض، ولم تستطع أن تحملها. كانت يداها تؤلمانها، لا تقويان على المساعدة، وكانت جروحها غير واضحة. كانت رين ترى زملاءها وأخاها ينزفون، وتحاول الوصول معهم إلى الخارج. "لحظات رعب"، تقول. لا تتذكّر سوى 5 أشخاص تحدثوا معها في تلك اللحظات، بالرغم من تواصلها مع آخرين. طمأنت والدها فيما كان الوصول صعباً إلى والدتها. في هذه اللحظات، كان رين وإيلي قد وصلا إلى سيارتهما مع زميلة لهما، واستقلّوها للذهاب إلى المستشفى، وهي الرحلة التي استمرّت ساعتين قبل أن يصلوا إلى مستشفى سرحال. في الطريق، كان الجميع يهرعون. لم تدرك رين حقيقة ما حدث وحجمه إلا لاحقاً.
"كنتُ أبكي، لا كان نواحاً. وعندما كنت أتوقف، كان أخي يبدأ بالبكاء. وحينما ينتهي، كانت زميلتهما تبكي هي الأخرى، وكانت المواساة مقسمة علينا جميعاً"، تقول رين، مضيفةً: "كانت تلك لحظات صعبة. كان أخي ينزف من كلّ أنحاء جسده، وكان لا يريد أن تراه أمي هكذا". عندما وصلوا إلى المستشفى، كان المشهد مروّعاً. كثيرون هنا، وإصاباتهم بليغة. "شعرتُ بالاستحياء. طلبتُ منهم أن يساعدوا آخرين وجدت أن إصاباتهم بليغة. نعم كنت أنزف، لكني كنت أشعر بأنّ من حولي لهم الأولوية. كان بينهم طفل على الأرض. كان المشهد يشبه المسلخ". لم تستطع رين أن تحرّك يديها لأكثر من أسبوعين، إذ إنّ الزجاج دخل عميقاً في مِرفقيها جرّاء الانفجار.
في اليوم التالي، شاهدت رين تسجيلاً لرئيسة تحرير "النهار" نايلة تويني على "إنستغرام"، كانت تعرض فيه الدمار الذي لحق بالمبنى. حينها، أدركت حجم ما حدث. "كلّ يوم كنت أشعر بصعوبة ما مررنا به أكثر. لا أستوعب كيف حصل ذلك. نحاول التخفيف عن أنفسنا، لكنّنا لا نستطيع. لن يهون ما حدث. ليس طبيعياً أن يحدث. لا كلمات تعبّر بشكل صحيح عن دمارنا الداخلي. لستُ أنا فقط، لكنّ كلّ شخص في لبنان أيضاً. من عاش الانفجار ومن لم يعشه. داخلنا، المشهد يشبه بيروت المدمّرة".
رغم إصابتها، عادت رين للعمل من المكتب، حيث لم يبقَ زجاج ولا مكاتب ولا أجهزة كمبيوتر. "آخر همي"، تقول. وتضيف: "صدرت الصحيفة عندما استشهد جبران تويني. صدرت يوم الخامس من أغسطس/ آب بالرغم من الانفجار. سأستمرّ في أداء عملي مهما حصل، ومهما كانت الظروف".
بين المهنة و"نحنُ"
على بعد شارع من "النهار"، تعرّض مكتب "العربي الجديد" في الجميزة لأضرار جسيمة جراء انفجار مرفأ بيروت، نظراً لوقوعه في مبنى ضمن "الدائرة الأولى"، أي المنطقة الأكثر قرباً من المرفأ، وتحديداً في شارع باستور. لم يبقَ الكثير من المكتب، سواء لناحية التجهيزات أو أدوات العمل الصحافي. في اليوم التالي، كانت بعض أجهزة المكاتب تتدلّى من النوافذ، فيما بات المبنى مفتوحاً على السماء والأرض.
بعد الانفجار بساعتين حاولت، رئيسة قسم السياسة في "العربي الجديد"، جمانة فرحات، الوصول إلى المكتب، لكنّها لم تتمكن من ذلك. في الصباح الباكر، عاودت المحاولة، لكنّها لم تستطع. تقول: "لم أجرؤ على الصعود. وقفتُ أسفل المبنى أنظر إلى الدمار، ولم أعد إلا في ساعات بعد الظهر. صعدت 5 طوابق والذهول يتملّكني بينما أشاهد حجم الدمار في المبنى، قبل أن أعاين حجم الضرر في مكتب "العربي الجديد" بعد أن كانت قد وصلت إليّ مقاطع مصورة تهيّأتُ من خلالها أننا أمام كارثة. تملَّكتني رغبة في البكاء والحسرة. خسارة المكتب على هذا النحو مؤلمة جداً. فعلى مدى أكثر من 6 سنوات، كان المكتب هو "البيت الأول"، لكنّي في المقابل كنت أرى الأهم، وهو أنّ أياً من الزملاء لم يصب بضرر جسدي".
كان مكتب "العربي الجديد" فارغاً نظراً لإجراءات الوقاية من فيروس كورونا، وهو ما ساهم في نجاة الزملاء. تقول جمانة: "نحن في "العربي الجديد" يمكن أن يُقال عنا أحياء بالصدفة أو بفضل كورونا. كان المكتب مغلقاً بسبب إصابة بالفيروس، ولو كان مفتوحاً، لكان كل من فيه قدّ تعرّض للإصابة". وتتحدث عن حجم الضرر في المكتب: "تحطمت الجدران والأسقف المستعارة. لم يبقَ حرفياً أي زجاج. تهشمت العديد من أجهزة الكمبيوتر. والأضرار هي جزء من الأضرار الكلية للمبنى وللأقسام المشتركة، ما يجعل عملية الترميم تتطلب وقتاً والكثير من الأموال". وتضيف: "كل الخسائر المادية، الأوراق وبعض المقتنيات التي اختفت بعد الانفجار يمكن أن تعوَّض، ولو بعد حين، لكن الخسارة الأكبر لبيئة العمل، للقدرة على التواصل اليومي المباشر مع الزملاء. ولفكرة الانتماء إلى مكان".
تعبّر فرحات عن صعوبة الأداء الإعلامي في ظلّ كلّ تلك الأزمات، قائلةً: "نحن في لبنان، عايشنا على مدى العقود الثلاثة الماضية حروباً واغتيالات لا تزال تعلق في ذاكرتنا إلى اليوم، لكن ما جرى في انفجار المرفأ مختلف. أصابنا في مقتل. من جهة، هناك كارثة يجب تغطيتها من كل جوانبها، ومن جهة أخرى، هناك "نحن" وتأثيرات الانفجار علينا نفسياً وجسدياً". الخروج إلى الشارع والاستماع إلى شهادات الناجين وأهالي الضحايا مُنهِك، ويزداد الأمر صعوبة عند الكتابة عنهم. يحاول الصحافي نقل المعلومة، لكنه في كثير من التفاصيل يكون عاجزاً عن مساعدة الضحايا، وخصوصاً في كارثة من هذا النوع. وكل ذلك يصعّب من عملية التعافي النفسي.
وفي لبنان، حيث ينوء البلد تحت أزمات متعددة، بدءاً من الانهيار الاقتصادي والمالي والفساد والاحتجاجات والأحداث الأمنية، كان الانفجار بمثابة مصيبة أكبر تُهدّد العيش اليومي. يرخي كل ذلك بظلاله على العمل الصحافي الذي بات أصعب نظراً للتضييق وللدمار والوباء. تقول فرحات: "لبنان عموماً ليس بيئة مهيّأة للعمل من المنزل. الاضطرار إلى القيام بذلك في ظل تكرار انقطاع الكهرباء والتقنين الذي يطاول المولدات الخاصة معاناة، وهو ما يتطلب استعدادات لوجستية عدة لتأمين عدم تأثر سير العمل، بدل اللابتوب دائماً يوجد اثنان لضمان الشحن، هناك ماكينة خاصة لإمداد ماكينة الواي فاي بالكهرباء، دائماً ما يجب ضمان وجود مصدرين للإنترنت". وتضيف: "منذ ما قبل الانفجار، العمل الصحافي في لبنان يزداد صعوبة في ظل إغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية أو عدم دفع الرواتب من قبل بعضها. وجاء الانفجار ليفاقم أزمة الصحافيين الذين يشكلون الحلقة الأضعف في المؤسسات الصحافية. أتوقع أن تزداد الأمور سوءاً في ظل الأزمة الاقتصادية. دائماً ما يَسأل الصحافي نفسه في لبنان: "هل سأستمر في العمل الشهر المقبل، وماذا سأفعل إذا ما توقف عملي ومن سيحميني؟". عموماً، يفتقد الصحافي في لبنان الأمان الوظيفي. من جهة ثانية، العمل الافتراضي (عن بعد) تجربة جديدة للعديد من الصحافيين، وهو يفرض تطوير مهارات محددة أيضاً".
فوق الركام والصدمة
كان الوباء سبباً في نجاة الزملاء في "العربي الجديد"، كما الحال في مؤسسات أخرى. في وسط بيروت، حيث مقرّ العديد من وسائل الإعلام الأجنبية والفضائيات والوكالات، يقع أيضاً مكتب وكالة "أسوشييتد برس". وكحال المكاتب الأخرى، لم يبق زجاج فيه، فباتت نوافذه مفتوحةً على السراي الحكومي. "لحسن الحظّ، لم يكن هناك أحد في المكتب. آخر زميلين لي غادرا قبل 5 دقائق"، تروي الإعلامية في "أسوشييتد برس" في بيروت، دلال معوّض لـ"العربي الجديد". وتقول: "عندما دخلت إلى المكتب، أصبت بصدمة أخرى جرّاء المشهد. أول ما فعلته أني غرّدت قائلةً "كورونا أنقذتنا". فعلاً أنقذتنا كورونا، إذ إننا كنا نتبع سياسة العمل من المنزل قدر الإمكان، وهو ما كنتُ أفعله يوم الانفجار".
The coronavirus saved us. This is our AP office this morning #Beirut_Explosion pic.twitter.com/0RFtWt6gy5
— Dalal Mawadدلال معوض (@dalalmawad) August 5, 2020
تروي دلال تفاصيل صدمتها: "شاهدت الدمار في الداخل. سقط السقف على مكتبي. تخيّلت لو كنتُ هنا. حلمتُ لثلاثة أيام متواصلة أنّي أجرّ أحد زملائي المدمى على الأرض. بقي صوت الزجاج في رأسي لأيام متواصلة. لم أستطع إلا أن أفكّر في ما كان ليحدث لو أنّ زملائي كانوا هنا، وأغلبهم يجلس إلى جانب الشباك. خلال صعودي ونزولي، كنتُ أشاهد مكاتب المؤسسات الإعلامية الأخرى، وأفكّر في أنّه لولا كورونا، لكان هناك عشرات الشهداء من الصحافة". لكنّ النجاة في المكتب كانت تعني الإصابة في المنزل لبعض الزملاء. تضيف معوّض "العديد من زملائي فقدوا منازلهم. العديد منهم أصيبوا في منازلهم. بقي مديري تحت ركام منزله أربعين دقيقة".
لكنّ الانفجار ليس وقتاً لراحة الصحافيين ولا لمعالجة صدمتهم. لأربعة أيام متواصلة، عملت دلال مع اثنين من زملائها من فوق الركام، حيث كانت تذهب لتغطّي تبعات الانفجار وتأثيراته على الأرض، وتعود إليه. كان المشهد سريالياً. كنّا نزيح الركام وننفض الغبار ونتابع عملنا، وكأننا في حرب. غطّيتُ حروباً سابقاً، لكن لم يكن لها هذا الوطء. طاولني هذا الانفجار، وطاول مكتبي وأصدقائي ومدينتي. كان عملي الصحافي صعباً جداً. كنتُ أبكي في الوقت المستقطع بين كلّ رسالةٍ مباشرة على الهواء وأخرى".
تعي معوّض أنّ العمل الصحافي في لبنان ليس آمناً، لكنّ الانفجار أظهر أمامها فداحة الخطورة: "لسنا آمنين حتى في بيوتنا، وليس فقط خلال عملنا الصحافي". كرّست دلال نفسها للتغطية بعده، "كنتُ أريد أن أوصل صورة ما يحصل، وأن نعمل فعلاً كي نصل إلى يومٍ نعرف فيه الفاعلين ونحقق العدالة للضحايا".
يتواصل العمل حالياً داخل مكاتب الوكالة في بيروت لإجراء الإصلاحات، فيما يعمل الصحافيون من منازلهم. تقول معوض "هناك جزءٌ مني يريد العودة إلى المكتب، لكنّ جزءاً آخر مني يخاف. بتّ أرى بيروت غير آمنة، ومن ضمنها المكتب. في الأيام العشرة الأولى، كنتُ أعمل منه، وبين التغطية وزحمة الأحداث والصدمة والأدرينالين، كان ذلك عادياً. لكنّي بعدها استوعبت حجم ما حصل، وكم أنّه غير عادي. لا أعرف كيف أصفه. لم أرَ مثل هذا في حياتي. ما زلتُ أقشعِرّ كلما سمعتُ صوت الزجاج". لكنّ أكثر ما يزعج دلال هو شبح سيناريو "لَوْ" وصدمته. يلاحقها السؤال تحديداً في مكتبها، وفي طريقها إلى منزلها بينما تمرّ قرب المرفأ: "لقد نجوتُ، لكن ماذا كان ليحدث، لو…؟".