حُلم مقعَّر

09 ابريل 2016
+ الخط -
عيونهم متثاقلة، تتوسطها حلقات فارغة، لم تعد مداخل للروح ولا حتى للتواصل. فقدت رونقي، أصبحت مثلهم، هالة جالسة بانتظار المحطة التالية. تدخل المقصورة في السواد، فراغ قاتم يستمر كالأبد.

تقف فجأة، كنفس يختنق، يزعق صوت إلكتروني، تصغر إثره روحي وتفتح أبواب المقصورة المسرعة كخلد. تخرج أفواج ميتة، تدخل أخرى أشد موتاً، أختل ملتصقة فوق كرسي. سواد النفق ينفذ حتى نقي العظام، ينبسط فوق صدري كرذيلة. انزاحت المقصورة السادسة عن مسارها.

ارتفعت فوق الأرض، غابت كأبد، وتوقفت فجأة كنفس يختنق، كنت أختنق أيضاً، أحملق في عيون الجالسين، صوت عبر رأسي، تبعته خطواط ضخمة لمجموعة أموات جديدة، هذا ما اعتقدته بداية.

أربع عشرة عيناً غائرة كمصب ماء ترصع سبعة وجوه حية، دخل الأول رافعاً كتفه وصوته، مغلفاً حنجرته بشال ملون، عاري الوجه والصوت دخل الثاني، قوي البنية، مبتسم فمه. صارخة شفاهه. طارقاً بذراعه عموداً يتوسط المقصورة، دخل الثالث، أصلع قصير يتمتم أغنية، ارتفعت صفرة تشجيعية من تحت حباله الصوتية فخرجت محيطة الهواء كبوق، دخل الرابع لا أرى منه إلا ظهره المربع كحائط، دخل الخامس والسادس والسابع، اكتملت المجموعة وأغلقت الأبواب.


أفلتت حناجرهم الصوت كمومس متمرسة، لم يكن غناءً ولا ترنيماً، كانت دماؤهم تغلي داخل أوعيتهم، صيحات لفريقهم المٌفضل تنشر البهجة قسراً، حاولت بهجتهم اقتلاع عيني وربط قدمي وجري من خدودي الممتلئة للوقوف، لم أدرك ما العمل، فأنا ومنذ وقت تجردت من نفسي، تقسمت لكتل وأجزاء وزوايا وحروف ومفاصل، لا تنطق بكليتها، فلا أفرح مرة واحدة، ولا أحزن مرة واحدة، بل كل جزء يشعر بذاته مستقلاً تماماً عن باقي الأجزاء، وعدا عن ذلك كله فأنا لا أتابع كرة القدم.



لم أستطع الإبقاء على مقتي المُبتذل، نظرتني البهجة صُلب أقنية الحدقة، خجلت منها وقفت أنشد معهم، بكلمات لم أفهمها، كلما صرخ أحدهم بوجه آخر مقتلعاً الكرامة من ملامحه دون حياء.

تمسدت روحي وارتاحت فوق كتفي وتمددت، وعلا صوتي مثلهم ماحياً عن جسدي قرف الجالسين. كنت أقوم بالمثل، أصرخ بالبرتغالية بأذن عجوز مقابلي، وتوأم صيني بجانبي، وشاب قبيح، فيموتون فوق موتهم.

في ذروة الضجيج دخل اثنان مع غيتاراتهم، حيتهم المجموعة وقمت بتحيتهم أنا أيضاً، واتفقنا بشكل مبطن على إكمال ما بدأناه، بدؤوا العزف والغناء بالإسبانية، كانت المجموعة تتابع شتائمها ونشيدها بالبرتغالية، وأنا ألامس بهجتي وأتتبع أفعالهم وأقلدها، كنا نمسح الأقدار السيئة عن الوجوه، ونزيل الموت عن المسام، ونبث الضوء في المسامع، ونسرب الحركة في المفاصل، كنا نصرخ بأعالي الأصوات، قسراً أننا أحياء.



بلحظة صخب مست العجوز كتفي، غدوت ممسوسة، كرهتها .. سألتني.

هل أنت إسبانية؟ كان قد هدأ كل شيء، انتقلت بكامل تركيزي أحاول التفكير بجدوى سؤالها، كانت قزحيتي تميل تجاه الباب تحاول اللحاق بالمجموعة الخارجة للتو، رأسي يحاول اختلاق الأصوات من جديد، ولا يستوعب أنها لربما انتهت. خفت الصوت، تثاقل الصوت، غاب الصوت.. تبخر.. فعدت كما بدأت.

دخلت المقصورة في السواد، فراغ قاتم يستمر كالأبد. توقفت فجأة، كنفس يختنق، صغرت على إثره روحي وفتحت أبواب المقصورة من جديد.
دلالات
المساهمون