حين يكون الحاكم غبياً

25 أكتوبر 2015
+ الخط -

... والتاريخ يعلمنا أن الفقراء كانوا دائما أقوى سلاح يلجأ إليه الحاكم المستجد المستبد، عندما يرغب في توطيد دعائم عرشه، لكنه أيضا يعلمنا أنهم أخطر كوابيس الحاكم، وأعدى أعدائه، والمسمار الأخير في نعشه، لكن الحاكم الغبي يدرك دائماً ذلك بعد فوات الأوان.

يروي المؤرخ المصري العظيم، عبد الرحمن الجبرتي، في الجزء الأول من تاريخه، وقائع ثورة جياع عنيفة، شهدتها القاهرة في منتصف شهر محرم سنة 1107 (ما يوافق 26 أغسطس/آب 1695) بدأت عندما "اجتمع الفقراء والشحاذون، رجالاً ونساءً وصبياناً، وطلعوا إلى القلعة، ووقفوا بحوش الديوان، وصاحوا من الجوع، فلم يُجِبهم أحد، فرجموا بالأحجار، فركب الوالي وطردهم". وعندما أدرك الفقراء أن الصياح ورجم الحجارة لم يكن كافياً لإقناع الحاكم بجدية مطالبهم، قرّروا أن يفعلوا ما هو أجدى، فنهبوا مخازن الغلال الحكومية، والمخازن التي يمتلكها كبار التجار أيضا، ووزعوا ما بها من فول وشعير وأرز وقمح على بعضهم، لتشهد البلاد بعدها أزمة غلاء حادة، "وحصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالي القرى والأرياف، حتى امتلأت منهم الأزقة، واشتد الكرب حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق، ومن الأفران، ومن على رؤوس الخبازين، ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطب وبأيديهم العصى، حتى يخبزوه بالفرن، ثم يعودون به".

نجحت ثورة الجياع بعد 12 يوماً فقط في عزل الوالي الذي ظن، في البداية، أن طرده الفقراء كافٍ للسيطرة على غضبهم. وفي يوم 17 صفر، تولى الحكم الوالي الجديد إسماعيل باشا، "ولما استقر في الولاية ورأى ما في الناس من الكرب والغلاء، أمر بجمع الفقراء والشحاذين، وأمر بتوزيعهم على الأمراء والأعيان، كل إنسان على قدر حاله وقدرته، وأخذ لنفسه جانباً، ولأعيان دولته جانباً، وعَيّن لهم ما يكفيهم من الخبز والطعام صباحاً ومساء، إلى أن انقضى الغلاء، وأعقب ذلك وباء عظيم، فأمر الباشا بيت المال أن يكفن الفقراء والغرباء، فصاروا يحملون الموتى من الطرقات، ويذهبون بهم إلى مغسل السلطان إلى أن انقضى أمر الوباء في آخر شوال".

لم تكن سيطرة الوالي على أزمتي الغلاء والوباء آخر مآثره، فمع مرور الأيام، أخذت مآثره تتوالى، فأكبر له الناس، مثلاً، قيامه بالقبض على شيخ اسمه محمد الزرقاني، كتب حُجّة وقف مزورة، وأمر الوالي بحلق لحية الشيخ الزرقاني، وتشهيره على جمل في الأسواق، بينما المنادى ينادي "هذا جزاء من يكتب الحجج الزور"، ثم أمر بنفيه إلى جزيرة الطينة، وأبهرهم قيامه بمحاسبة باشا، اسمه علي المنفصل، تهرب من أداء الضرائب، فتم تشميع منزله، وبيع ممتلكاته. ولهج الناس بالثناء على الوالي، عندما قام، في يوم ختان ولده إبراهيم، بالتكفل بمصاريف ختان 2336 غلاما من أبناء الفقراء، وأمر لكل غلام مختون بكسوة كاملة ودينار. ومع توالي قراراته العادلة الحكيمة، ظن الناس أنهم وجدوا أخيرا حلمهم في حاكم عادل يدوم عدله إلى الأبد.  

لكن الوالي قرّر، فجأة، أن يغير سياسته الاقتصادية في حكم البلاد، بناءً على نصيحة مدير إدارة ضرب النقود الذي كان يهودياً اسمه ياسف، ولأنه كان بارعاً في مهنته، وخبيراً بمفاتيحها، فقد استطاع أن يقنع الوالي بخطة جديدة، يقترحها لزيادة ما يتم تحصيله لخزينة الدولة، فأشهر الوالي النداء بالقرارات الجديدة في شوارع مصر، "فاغتم الناس وتوجه التجار وأعيان البلد إلى الأمراء، وراجعوهم في ذلك، فركب الأمراء وطلعوا إلى القلعة، وفاوضوا الباشا، فجاوبهم بما لا يرضيهم، فقاموا عليه قومة واحدة، وسألوه أن يسلمهم اليهودي، فامتنع عن تسليمه".

تصاعد الخلاف بين الوالي وأركان دولته الذين كانوا أكثر إدراكاً منه لغضب الشارع. وبعد شد وجذب، قرر الوالي أن يضحي بمساعده، فيضعه في الحجز امتصاصاً للغضب، لكن مطالب الشارع كانت قد تصاعدت، وقتها، بسبب تأخر الوالي في اتخاذ القرار، وهو ما لم يدركه الوالي الذي كان يعتقد، في قرارة نفسه، أن الناس لن تنسى له ما فعله من أجلهم، عندما سيطر على أزمتي الغلاء والوباء. ولن تنكر له كل ما قام به من مآثر، كانوا يحكون ويتحاكون عنها، حتى وقت قريب، كما أنه أيضا لم يكن يتصور أبداً أن جنوده سينقلبون عليه، وسيقومون بالتوجه إلى السجن، وإخراج مساعده منه، ليقوموا بقتله، وجره من رجليه في شوارع العاصمة، ما شجع الجماهير الغاضبة على التمادي، فقامت جماعات منها بخطف جثة الرجل، وجمع حطب، وقاموا بإحراق الجثة على الملأ، بعد صلاة الجمعة. 

كان مطلب الجماهير، في البداية، مقتصرا على إطاحة ذلك المسؤول من منصبه، وإيقاف قراراته التي جلبت الخراب للناس، لكن تعنت الوالي، وعناده النابع من ثقته في حب شعبه له، جعل مشاعر الغضب تتصاعد بداخلهم، وتفقدهم إنسانيتهم، ليرتكبوا فعلاً بشعاً كهذا. وبدلاً من أن ينقذ الوالي نفسه بالإستجابة للناس منذ البداية، أدى به عناده إلى أن يفقد هو حكمه شخصياً، كما يخبرنا الجبرتي، ففي ثاني عشر ربيع الأول، قامت العساكر المصرية، وعزلوا الباشا وحاسبه الوالي الجديد الذي تولى بعده، فوجد أنه تأخر عليه 50 ألف إردب، دفع عنها خمسين كيساً، واضطر لبيع منزله وبلاد البدرشين التي كانت وقفاً له، وتوجه إلى بغداد التي اتخذها منفى له، لينتهي حكمه بعد سنتين فقط، لأنه لم يدرك خلالهما أهم درس ينبغي أن يتعلمه الحاكم "لا تأمن غضب فقراء شعبك، لأنهم لن يكونوا لك على الدوام إلا لو كنت لهم على الدوام".  

لماذا يحب التاريخ أن يعيد نفسه في الدول المتخلفة؟ ببساطة، لأنه لا أحد فيها يقرأه ويتعلم من دروسه. ولذلك، يجد التاريخ أن من الأسهل عليه تكرار نفسه، بدلا من تكليف نفسه بتقديم الجديد.

فصل من كتابي (فتح بطن التاريخ)  

 

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.