ولِدَت المفاهيم ونَمَت مع الزمن، آخذة بالتحوّل متوازية ومنضفرة مع تحوّل المجتمعات المنتجة لها، إلى أن استقرت على حالها وباتت محل توافق عالميّ. وفور إدراج الإنسان لها ضمن "مفردات" الكلام والكتابة قيد الاستخدام وتبادل المعارف وحوارات التثاقف، لعبت المفاهيم دوراً رمزياً، فصارت "شفرة" أو أشبه بالشفرة الدالّة. كثير من المفاهيم رَسخ لدى الشعوب ورُفِع كشعارات من أجل تحقيقها، كالعدل، والمساواة، والحرية، والكرامة، والوطن، وغيرها. وكثير رسخَ ليكون حجّة وذريعة تفسِّر دواعي عدم التوافق - لا بل الاختلاف درجة الاحتراب، كالظلم، والعنصرية، والاستبداد، والشوفينية، والنازية، والفاشية، والتعصب، والإرهاب.
على هذا النحو أصبح بإمكاننا النظر إلى المفاهيم باعتبارها وعاءً نخزن فيه تصوراتنا، وآمالنا، ورجاءاتنا، وأحكامنا، وطموحات نشترك بها جميعاً.. تقريباً. غير أنّ أمر إخراج تلك المفاهيم إلى الواقع العَمَليّ بإجراءات مادية مؤثرة نقوم بها كسلطات، أو كأفراد، أو كأحزاب، أو كهيئات أهلية مختلفة، سرعان ما يُحيلنا إلى الافتراق والاشتباك تحت الشعار الواحد! أو التذابح داخل القاعة الواحدة! وما نشهده يومياً من أحداث تعصف بالعالم، والكيفية التي يتحوّل بها الحدث الواحد إلى "أحداث" تتم ترجمتها بِنُسَخ متعددة بعدد "المترجمين" أو "القُرّاء"؛ لدليل على تحلل المفاهيم وتفسخها - رغم أنّ جميع هؤلاء يدّعون الاستنارة بِوَهَج المفهوم الواحد ونيرانه!
كل شيء، إذن، يخضع للتأويل. وكلّ تأويل، بالضرورة، يُستخرَج من المصالح. وإذا كانت المفاهيم الراسخة عُرضةً لتباين التفسير والتأويل، وفي كثير من الأحيان لـ"التوجيه المنحرف والتعبئة التهييجية" تمارسها دول وحكومات، مثلما يمارسها الأفراد، فما بالنا بتلك المستحدثة في حياتنا. المفاهيم التي وُلِدَت نتيجة تحولات اجتماعية أو سياسية توافقنا على مدلولها الأولي (بالسلب أو بالإيجاب)، لكنها، وبسبب حداثة ولادتها، أكثر عرضة لتعدد الاجتهادات والخروج منها بتعدد الأحكام!
تبدو هذه المفاهيم، تحديداً، أشبه بالمواليد المصابين بإعاقات خلقية وتشوهات. أو بكائنات هلامية قابلة لإعادة التشكّل وفقاً لحركة أصابع مَن تمتد أياديهم للعبث بها: قابلة لأنْ تُستخدَم كعلاج وضمادات ورأفة، وكذلك لأنْ تُصَّوب كرصاصة وخنجر وتُهمة!
مثال على ذلك، مفهوم "التطبيع"، الذي تم توليده العفوي والمتعجّل فور إبرام اتفاقية كامب ديفيد أولاً، ومن بعدها إتفاقيتي أوسلو ووادي عربة. ولأنّ ثمّة تناقضاً بين الإرادة السياسية في إبرام هذه الاتقاقيات الملزمة بـ"تطبيع" العلاقات بين أطرافها، والرفض الشعبي العربي المبدئي لها؛ حملَ هذا "التعبير/ المفهوم" وجهاً بشعاً مرذولاً، لدى المثقفين والمعارضين السياسيين بعامة، أحزاباً وهيئات. غير أنّ هؤلاء ليسوا، جميعهم، على مستوى واحد في كيفية قراءة المفهوم وتفسيره عند التعرض لحالاتٍ تطرأ، ما أدّى ويؤدي إلى كيل تُهَم التخوين تارةً، ورفعها تارةً أخرى، ولم يكن "الهوى" بعيداً في كثير من المرّات.
في الجزء قبل الأخير من سيرة الشاعر سميح القاسم "إنها مجرد منفضة"، يورد حكاية مفادها أنّه دعا الشاعر محمد الفيتوري لمشاركته القراءة ضمن النشاط المقام لأجله في تونس أو المغرب (القاسم ليس متأكداً)، وذلك تقديراً منه لتجربة الآخر. لكن الفيتوري اعتذر لأنه سيتوجه إلى ليبيا تلك الليلة. ثم يُفْجَع صاحب السيرة بعد شهور بتصريح صحفي للفيتوري يدّعي فيه أنّ القاسم دعاه لـ"إسرائيل"، غير أنه رفض الدعوة لأنه "ضد التطبيع"!
هذه حالة نموذجية لتأمل كيف نقرأ المفاهيم، ونترجمها، ونستخدمها. حالة نموذجية لدراسة تحلل المفاهيم وتفسخها.
غير أنّ المؤلم الفاجع، في حكاية شاعرين رحلا عن دُنيانا الآن، يتمثل في أنّ فضيلة الأخلاق والنُبْل قد أصابها ما أصاب المفاهيم: التحلل، والتفسّخ!
(كاتب وروائي أردني)
على هذا النحو أصبح بإمكاننا النظر إلى المفاهيم باعتبارها وعاءً نخزن فيه تصوراتنا، وآمالنا، ورجاءاتنا، وأحكامنا، وطموحات نشترك بها جميعاً.. تقريباً. غير أنّ أمر إخراج تلك المفاهيم إلى الواقع العَمَليّ بإجراءات مادية مؤثرة نقوم بها كسلطات، أو كأفراد، أو كأحزاب، أو كهيئات أهلية مختلفة، سرعان ما يُحيلنا إلى الافتراق والاشتباك تحت الشعار الواحد! أو التذابح داخل القاعة الواحدة! وما نشهده يومياً من أحداث تعصف بالعالم، والكيفية التي يتحوّل بها الحدث الواحد إلى "أحداث" تتم ترجمتها بِنُسَخ متعددة بعدد "المترجمين" أو "القُرّاء"؛ لدليل على تحلل المفاهيم وتفسخها - رغم أنّ جميع هؤلاء يدّعون الاستنارة بِوَهَج المفهوم الواحد ونيرانه!
كل شيء، إذن، يخضع للتأويل. وكلّ تأويل، بالضرورة، يُستخرَج من المصالح. وإذا كانت المفاهيم الراسخة عُرضةً لتباين التفسير والتأويل، وفي كثير من الأحيان لـ"التوجيه المنحرف والتعبئة التهييجية" تمارسها دول وحكومات، مثلما يمارسها الأفراد، فما بالنا بتلك المستحدثة في حياتنا. المفاهيم التي وُلِدَت نتيجة تحولات اجتماعية أو سياسية توافقنا على مدلولها الأولي (بالسلب أو بالإيجاب)، لكنها، وبسبب حداثة ولادتها، أكثر عرضة لتعدد الاجتهادات والخروج منها بتعدد الأحكام!
تبدو هذه المفاهيم، تحديداً، أشبه بالمواليد المصابين بإعاقات خلقية وتشوهات. أو بكائنات هلامية قابلة لإعادة التشكّل وفقاً لحركة أصابع مَن تمتد أياديهم للعبث بها: قابلة لأنْ تُستخدَم كعلاج وضمادات ورأفة، وكذلك لأنْ تُصَّوب كرصاصة وخنجر وتُهمة!
مثال على ذلك، مفهوم "التطبيع"، الذي تم توليده العفوي والمتعجّل فور إبرام اتفاقية كامب ديفيد أولاً، ومن بعدها إتفاقيتي أوسلو ووادي عربة. ولأنّ ثمّة تناقضاً بين الإرادة السياسية في إبرام هذه الاتقاقيات الملزمة بـ"تطبيع" العلاقات بين أطرافها، والرفض الشعبي العربي المبدئي لها؛ حملَ هذا "التعبير/ المفهوم" وجهاً بشعاً مرذولاً، لدى المثقفين والمعارضين السياسيين بعامة، أحزاباً وهيئات. غير أنّ هؤلاء ليسوا، جميعهم، على مستوى واحد في كيفية قراءة المفهوم وتفسيره عند التعرض لحالاتٍ تطرأ، ما أدّى ويؤدي إلى كيل تُهَم التخوين تارةً، ورفعها تارةً أخرى، ولم يكن "الهوى" بعيداً في كثير من المرّات.
في الجزء قبل الأخير من سيرة الشاعر سميح القاسم "إنها مجرد منفضة"، يورد حكاية مفادها أنّه دعا الشاعر محمد الفيتوري لمشاركته القراءة ضمن النشاط المقام لأجله في تونس أو المغرب (القاسم ليس متأكداً)، وذلك تقديراً منه لتجربة الآخر. لكن الفيتوري اعتذر لأنه سيتوجه إلى ليبيا تلك الليلة. ثم يُفْجَع صاحب السيرة بعد شهور بتصريح صحفي للفيتوري يدّعي فيه أنّ القاسم دعاه لـ"إسرائيل"، غير أنه رفض الدعوة لأنه "ضد التطبيع"!
هذه حالة نموذجية لتأمل كيف نقرأ المفاهيم، ونترجمها، ونستخدمها. حالة نموذجية لدراسة تحلل المفاهيم وتفسخها.
غير أنّ المؤلم الفاجع، في حكاية شاعرين رحلا عن دُنيانا الآن، يتمثل في أنّ فضيلة الأخلاق والنُبْل قد أصابها ما أصاب المفاهيم: التحلل، والتفسّخ!
(كاتب وروائي أردني)